فقل صدقت ، وهذا هو فعلكم عند الأحجار والأبنية التي على القبور وغيرها .
فهذا أقر أن فعلهم هذا هو عبادة الأصنام فهو المطلوب .
ويقال له أيضاً : قولك الشرك عبادة الأصنام هل مرادك أن الشرك مخصوص بهذا ، وأن الاعتماد على الصالحين ودعاءهم لا يدخل في ذلك ، فهذا يرده ما ذكره الله في كتابه من كفر من تعلق على الملائكة أو عيسى أو الصالحين ، فلا بد أن يقر لك أن من أشرك في عبادة الله أحداً من الصالحين فهو الشرك المذكور في القرآن . وهذا هو المطلوب .
وسر المسألة : أنه إذا قال أنا لا أشرك بالله .
فقل له ، وما الشرك بالله فسره لي :
فإن قال هو عبادة الأصنام :
فقل وما معنى عبادة الأصنام فسرها لي :
فإن قال أنا لا أعبد إلا الله وحده .
فقل : ما معنى عبادة الله وحده فسرها لي ، فإن فسرها بما بينه القرآن فهو المطلوب ، وإن لم يعرفه فكيف يدعى شيئاً وهو لا يعرفه .
وإن فسر ذلك بغير معناه بينت له الآيات الواضحات في معنى الشرك بالله وعبادة الأوثان ، وأنه الذي يفعلونه في هذا الزمان بعينه ، وأن عبادة الله وحده لا شريك له هي التي ينكرون علينا ويصيحون فيه كما صاح إخوانهم حيث قالوا : (( اجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب )) صورة ص آية : 5 .
فإن قال إنهم لا يكفرون بدعاء الملائكة والأنبياء ، وإنما يكفرون لما قالوا : الملائكة بنات الله ، فإنا لم نقل عبد القادر ابن الله ولا غيره .
فالجواب أن نسبة الولد إلى الله كفر مستقل ، قال الله تعالى : ( قل هو الله أحد ، الله الصمد )) سورة الإخلاص آية:2 .
والأحد الذي لا نظير له .
والصمد هو المقصود في الحوائج ، فمن جحد هذا فقد كفر ، ولو لم يجحد السورة ، وقال الله تعالى : (( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله )) سورة المؤمنون آية : 91 . ففرق بين النوعين ، وجعل كلا منهما كفراً مستقلاً ، وقال تعالى : (( وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم ، وخرقوا له بنين وبنات بغير علم )) سورة الأنعام آية :100 ففرق بين كفرين ، والدليل على هذا أيضاً : أن الذين كفروا بدعاء اللات مع كونه رجلاً صالحاً لم يجعلوه ابن الله ، والذين كفروا بعبادة الجن لم يجعلوهم كذلك .
وكذلك أيضاً العلماء في جميع المذاهب الأربعة يذكرون في ( باب حكم المرتد ) أن المسلم إذا زعم أن الله ولداً فهو مرتد ، ويفرقون بين النوعين ، وهذا في غاية الوضوح .
وإن قال : (( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) سورة يونس آية : 62 ، فقل هذا هو الحق ، ولا يعبدون .
ونحن لم نذكر إلا عبادتهم مع الله وشركهم معه ، وإلا فالواجب عليك حبهم واتباعهم والإقرار بكرامتهم .
ولا يجحد كرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال ، ودين الله وسط طرفين ، وهدى بين ضلالتين وحق بين باطلين ، فإذا عرفت أن هذا الذي يسميه المشركون في زماننا ( كبير الاعتقاد ) هو الشرك الذي نزل فيه القرآن وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عليه .
فاعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين :
أحدهما : أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء . وأما في الشدة فيخلصون لله الدعاء .
كما قال تعالى : (( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ، فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً )) سورة الإسراء آية :67 .
وقوله : (( قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين ، بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون )) . سورة الأنعام آية 40 .
وقوله : (( وإذا مسّ الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه )) إلى قوله : (( قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار )) سورة الزمر آية : 8 وقوله : (( وإذا غشيهم موج كالظّلل دعوا الله مخلصين له الدين )) سورة لقمان آية : 32 .
فمن فهم هذه المسألة التي وضحها الله في كتابه ، وهي أن المشركين الذين فاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون الله ويدعون غيره في الرخاء .
وأما في الضراء والشدة فلا يدعون إلا الله وحده لا شريك له وينسون سادتهم ، تبين له الفرق بين شرك أهل زماننا وشرك الأولين .
ولكن أين من يفهم قلبه هذه المسألة فهماً راسخاً ، والله المستعان.
الأمر الثاني : أن الأولين يدعون مع الله أناساً مقربين عند الله إما أنبياء وإما أولياء ، وإما ملائكة ، أو يدعون أشجاراً أو أحجاراً مطيعة لله ليست عاصية .
وأهل زماننا يدعون مع الله أناساً من أفسق الناس .
والذين يدعونهم هم الذين يحكون عنهم الفجور من الزنا والسرقة وترك الصلاة وغير ذلك .
والذي يعتقد في الصالح أو الذي لا يعصي مثل الخشب والحجر أهون ممن يعتقد فيمن يشاهد فسقه وفساده ويشهد به .
إذا تحققت أن الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصح عقولاً ، وأخف شركاً من هؤلاء .
فاعلم أن لهؤلاء ( شبهة ) يوردونها على ما ذكرنا ، وهي من أعظم شبههم فاصغ سمعك لجوابها .
وهي أنهم يقولون : إن الذين نزل فيهم القرآن لا يشهدون أن ( لا إله إلا الله ) ويكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم وينكرون البعث ، ويكذبون القرآن ويجعلونه سحراً ، ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ونصدق القرآن ، ونؤمن بالبعث ، ونصلي ، ونصوم . فكيف تجعلوننا مثل أولئك .
فالجواب : أنه لا خلاف بين العلماء كلهم أن الرجل إذا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء وكذبه في شيء أنه كافر لم يدخل في الإسلام ، وكذلك إذا آمن ببعض القرآن وجحد بعضه ، كمن أقرّ بالتوحيد وجحد وجوب الصلاة ، أو أقر بالتوحيد والصلاة وجحد وجوب الزكاة ، أو أقر بهذا كله وجحد الصوم أو أقر بهذا كله وجحد الحج .
ولما لم ينقد أناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للحج ، أنزل الله في حقهم (( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً . ومن كفر فإن الله غني عن العالمين )) سورة آل عمران آية : 97 .
ومن أقر بهذا كله وجحد البعث كفر بالإجماع ، وحل دمه وماله كما قال تعالى : (( إن الذين يكفرون بالله ورسله ، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ، ويقولون نؤمن ببعض ، ونكفر ببعض ، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً ، أولئك هم الكافرون حقاً وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً )) سورة النساء آية : 150 ، 151 .
فإذا كان الله قد صرّح في كتابه أن من آمن ببعض وكفر ببعض فهو الكافر حقاً ، وأنه يستحق ما ذكر زالت الشبهة .
وهذه هي التي ذكرها بعض أهل الإحساء في كتابه الذي أرسله إلينا .
ويقال أيضاً إن كنت تقر أن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء ، وجحد وجوب الصلاة إنه كافر حلال الدم والمال بالإجماع ، وكذلك إذا أقر بكل شيء إلا البعث ، وكذلك لو جحد وجوب صوم رمضان وصدق بذلك كله لا تختلف المذاهب فيه ، وقد نطق به القرآن كما قدمنا .
فمعلوم أن التوحيد هو أعظم فريضة جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعظم من الصلاة والزكاة والصوم والحج ، فكيف إذا جحد الإنسان شيئاً من هذه الأمور كفر ولو عمل بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ وإذا جحد التوحيد الذي هو دين الرسل كلهم لا يكفر ، سبحان الله ما أعجب هذا الجهل .
ويقال أيضاً : هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة ، وقد أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويؤذنون ويصلون .
فإن قال إنهم يقولون : إن مسيلمة نبي ، فقل هذا هو المطلوب ، إذا كان من رفع رجلاً إلى رتبة النبي صلى الله عليه وسلم كفر وحلّ ماله ودمه ولم تنفعه الشهادتان ولا الصلاة فكيف بمن رفع شمسان أو يوسف ؟ أو صحابياً أو نبياً إلى مرتبة جبار السموات والأرض ، سبحان الله ما أعظم شأنه (( كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون )) سورة الروم آية : 59 .
ويقال أيضاً : (( الذين حرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار كلهم يدعون الإسلام ، وهم من أصحاب علي ، وتعلموا العلم من الصحابة ولكن اعتقدوا في علي مثل الاعتقاد في يوسف وشمسان وأمثالهما ، فكيف أجمع الصحابة على قتلهم وكفرهم ؟ أتظنون أن الصحابة يكفرون المسلمين ؟ أم تظنون أن الاعتقاد في تاج وأمثاله لا يضر ، والاعتقاد في علي بن أبي طالب يكفّر .
ويقال أيضاً ، بنو عبيد القداح الذين ملكوا المغرب ومصر في زمان بني العباس كلهم يشهدون أن (( لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله )) ويدعون الإسلام ، ويصلون الجمعة والجماعة ، فلما أظهروا مخالفة الشريعة في أشياء دون ما نحن فيه أجمع العلماء على كفرهم وقتالهم ، وأن بلادهم بلاد حرب ، وغزاهم المسلمون حتى استنقذوا ما بأيديهم من بلدان المسلمين .
ويقال أيضاً ، إذا كان الأولون لم يكفروا إلا أنهم جمعوا بين الشرك وتكذيب الرسول والقرآن وإنكار البعث وغير ذلك ، فما معنى الباب الذي ذكر العلماء في كل مذهب : ( باب حكم المرتد ) وهو المسلم الذي يكفر بعد إسلامه .
ثم ذكروا أنواعاً كثيرة كل نوع منها يكفر ويحل دم الرجل وماله حتى إنهم ذكروا أشياء يسيرة عند من فعلها ، مثل كلمة يذكرها بلسانه دون قلبه ، أو كلمة يذكرها على وجه المزح واللعب .
ويقال أيضاً ، الذين قال الله فيهم : (( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم )) سورة التوبة آية : 74 . أما سمعت الله كفرهم بكلمة مع كونهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجاهدون معه ويصلون ويزكون ويحجون ويوحدون .
وكذلك الذين قال الله فيهم : (( قل أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )) سورة التوبة آية 65 ، 66 .
فهؤلاء الذين صرّح الله فيهم أنهم كفروا بعد إيمانهم وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، قالوا كلمة ذكروا أنهم قالوها على وجه المزح فتأمل هذه الشبهة وهي قولهم : تكفّرون من المسلمين أناساً يشهدون أن ( لا إله إلا الله ) ويصلون ويصومون ، ثم تأمل جوابها فإنه من أنفع ما في هذه الأوراق .
ومن الدليل على ذلك أيضاً ما حكى الله عن بني إسرائيل مع إسلامهم وعلمهم وصلاحهم ، أنهم قالوا لموسى : (( اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة (( سورة الأعراف آية 138 .
وقول أناس من الصحابة ( اجعل لنا ذات أنواط ) فحلف النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا نظير قول بني إسرائيل اجعل لنا إلهاً .
ولكن للمشركين شبهة يدلون بها عند هذه القصة :
وهي أنهم يقولون : إن بني إسرائيل لم يكفروا بذلك .
وكذلك الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : اجعل لنا ذات أنواط لم يكفروا .
فالجواب أن نقول إن بني إسرائيل لم يفعلوا ذلك وكذلك الذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا ذلك ، ولا خلاف أن بني اسرائيل لو فعلوا ذلك لكفروا .
وكذلك لا خلاف في أن الذين نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم لو لم يطيعوه واتخذوا ذات أنواط بعد نهيه لكفروا ، وهذا هو المطلوب ، ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها فتفيد التعلم والتحرز ، ومعرفة أن قول الجاهل ( التوحيد فهمناه ) أن هذا من أكبر الجهل ومكائد الشيطان .
وتفيد أيضاً أن المسلم المجتهد إذا تكلم بكلام كُفْر وهو لا يدري فنُبّه على ذلك فتاب من ساعته أنه لا يكفر كما فعل بنو اسرائيل ، والذين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم .
وتفيد أيضاً أنه لو لم يكفر فإنه يغلظ عليه الكلام تغليظاً شديداً كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وللمشركين شبهة أخرى يقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال : ( لا إله إلا الله ) . وكذلك قوله : ( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ( لا إله إلا الله ) وأحاديث أُخر في الكف عمن قالها .
ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر ، ولا يقتل ولو فعل ما فعل .
فيقال لهؤلاء المشركين الجهال : معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون : ( لا إله إلا الله ) .
وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، ويصلون ويدّعون الإسلام .
وكذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار ، وهؤلاء الجهلة مقرون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال ( لا إله إلا الله ) وأن من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها ، فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعاً من الفروع ، وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أصل دين الرسل ورأسه ؟ ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث .
فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلاً ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعى الإسلام إلا خوفاً على دمه وماله .
والرجل إذا أظهر الإسلام وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك ، وأنزل الله تعالى في ذلك : (( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا )) سورة النساء آية : 94 أي فتثبتوا .
فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت ، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله تعالى : (( فتبينوا )) ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبت معنى .
وكذلك الحديث الآخر وأمثاله ، معناه ما ذكرناه أن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه ، إلى أن يتبين منه ما يناقض ذلك .
والدليل على هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أقتلته بعد ما قال : ( لا إله إلا الله ) ؟ وقال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ( لا إله إلا الله ) هو الذي قال في الخوارج : ( أينما لقيتموهم فاقتلوهم لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) مع كونهم من أكثر الناس عبادة وتهليلاً وتسبيحاً ، حتى أن الصحابة يحقرون صلاتهم عندهم ، وهم تعلموا العلم من الصحابة فلم تنفعهم ( لا إله إلا الله ) ولا كثرة العبادة ، ولا ادعاء الإسلام لما ظهر منهم مخالفة الشريعة .
وكذلك ما ذكرناه من قتال اليهود ، وقتال الصحابة بني حنيفة .
وكذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يغزو بني المصطلق لما أخبره رجل أنهم منعوا الزكاة ، حتى أنزل الله : (( يا أيها الذي آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا )) سورة الحجرات آية : 6 وكان الرجل كاذباً عليهم .
وكل هذا يدل على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي احتجوا بها ما ذكرناه .
ولهم شبهة أخرى وهو ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى فكلهم يعتذرون حتى ينتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قالوا فهذا يدل على أن الإستغاثة بغير الله ليست شركاً .
والجواب أن نقول : سبحان من طبع على قلوب أعدائه .
فإن الإستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها . كما قال الله تعالى في قصة موسى : (( فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه )) سورة القصص آية : 15 .
وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب أو غيره في أشياء يقدر عليها المخلوق ، ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء ، أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله .
إذا ثبت ذلك : فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعوا الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف .
وهذا جائز في الدنيا والآخرة ، وذلك أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك فتقول له ادع الله لي كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه ذلك في حياته .
وأما بعد موته ، فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلك عند قبره ، بل أنكر السلف الصالح على من قصد دعاء الله عند قبره ، فكيف بدعائه نفسه ؟
ولهم شبهة أخرى : وهي قصة إبراهيم لما ألقى في النار اعترض له جبريل في الهواء ، فقال له ألك حاجة ؟ فقال إبراهيم : أما إليك فلا .
قالوا : فلو كانت الاستغاثة بجبريل شركاً لم يعرضها على إبراهيم .
فالجواب : إن هذا من جنس الشبهة الأولى ، فإن جبريل عرض عليه أن ينفعه بأمر يقدر عليه ، فإنه كما قال الله فيه : (( شديد القوى )) سورة النجم آية : 5 . فلو أذن الله له أن يأخذ نار إبراهيم وما حولها من الأرض والجبال يلقيها في المشرق أو المغرب لفعل . ولو أمره أن يضع إبراهيم في مكان بعيد عنهم لفعل ، ولو أمره أن يرفعه إلى السماء لفعل.
وهذا كرجل غني له مال كثير يرى رجلاً محتاجاً فيعرض عليه أن يقرضه أو أن يهبه شيئاً يقضي به حاجته فيأتي ذلك الرجل المحتاج أن يأخذ ويصبر إلى أن يأتيه الله برزق لا منة فيه لأحد . فأين هذا من استغاثة العبادة والشرك لو كانوا يفقهون ؟
ولنختّم الكلام إن شاء الله تعالى بمسألة عظيمة مهمة تفهم مما تقدم .
ولكن نفرد لها الكلام لعظم شأنها ولكثرة الغلط فيها فنقول : لا خلاف أن التوحيد لا بد أن يكون بالقلب واللسان والعمل ، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلماً .
فإن عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر معاند كفرعون وإبليس وأمثالهما .
وهذا يغلط فيه كثير من الناس ، يقولون : هذا حق ، ونحن نفهم هذا .
ونشهد أنه الحق ولكنا لا نقدر أن نفعله ، ولا يجوز عند أهل بلدنا إلا ومن وافقهم ، أو غير ذلك من الأعذار ، ولم يدر المسكين أن غالب أئمة الكفر يعرفون الحق ولم يتركوه إلا لشيء من الأعذار . كما قال تعالى (( اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً )) سورة التوبة آية : 9 وغير ذلك من الآيات كقوله : (( يعرفونه كما يعرفون أبناءهم )) سورة البقرة آية :146 .
فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً وهو لا يفهمه أو لا يعتقده بقلبه فهو منافق ، وهو شر من الكافر الخالص : (( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار )) سورة النساء آية : 154 .
وهذه المسألة مسألة كبيرة طويلة تتبين لك إذا تأملتها في ألسنة الناس ترى من يعرف الحق ويترك العمل به لخوف نقص دنيا أو جاه أو مداراة لأحد .
وترى من يعمل به ظاهراً لا باطناً ، فإذا سألته عما يعتقد بقلبه فإذا هو لا يعرفه .
ولكن عليك بفهم آيتين من كتاب الله .
أولاهما قوله تعالى : (( لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )) . سورة التوبة آية : 66 .
فإذا تحققت أن بعض الصحابة الذين غزوا الروم مع الرسول صلى الله عليه وسلم كفروا بسبب كلمة قالوها على وجه المزح واللعب ، تبين لك أن الذي يتكلم بالكفر أو يعمل به خوفاً من نقص مال أو جاه أو مداراة لأحد أعظم ممن يتكلم بكلمة يمزح بها .
والآية الثانية : قوله تعالى : (( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً ، فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ، ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة )) سورة النحل آية :106 ، 107 .
فلم يعذر الله من هؤلاء إلا من أكره مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان .
وأما غير هذا فقد كفر بعد إيمانه ، سواء فعله خوفاً أو مداراة أو مشحة بوطنه ، أو أهله ، أو عشيرته أو ماله ، أو فعله على وجه المزح ، أو لغير ذلك من الأعراض إلا المكره ، فالآية تدل على هذا من جهتين :
الأولى : (( إلا من أكره )) فلم يستن الله تعالى إلا المكره .
ومعلوم أن الإنسان لا يكره إلا على الكلام أو الفعل ، وأما عقيدة القلب فلا يكره عليها أحد .
والثانية قوله تعالى : (( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة )) .
فصرح أن هذا الكفر والعذاب لم يكن بسبب الاعتقاد أو الجهل أو البغض للدين أو محبة الكفر ، وإنما سببه أن له في ذلك حظاً من حظوظ الدنيا فآثره على الدين .
والله سبحانه وتعالى أعظم .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .