أجمع أهل العلم على أن من لا يطيق القيام له أن يصلي جالساً ، وإن أمكنه القيام إلا أنه يخشى زيادة مرض أو شق عليه مشقة شديدة صلى قاعداً أو نحوه ، قال مالك وقال ميمون بن مهران : إذا لم يستطع أن يقوم لدنياه صلى جالساً وروي عن أحمد نحوه ، ولنا قوله تعالى : ( ماجعل عليكم في الدين من حرج) ولأنه صلي الله عليه وسلم صلى جالساً لما جحش شقه ، والظاهر أنه لم يعجر عن القيام بالكلية . وإن قدر على القيام بأن يتكيء على عصا أو حائط لزمه ، وإن قدر عليه كهيئة الراكع كمن هو في بيت قصير السقف لا يمكنه الخروج أو خائف إذا رفع رأسه فإن كان لحدب أو كبر لزمه القيام وإن كان لغير ذلك احتمل أن يلزمه واحتمل أن لا يلزمه لقوله : "فإن لم تستطع فقاعداً" .
ومن قدر على القيام وعجر عن الركوع والسجود لم يسقط عنه القيام فيوميء بالركوع ثم يجلس فيوميء بالسجود وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يسقط القيام كصلاة النافلة على الراحلة ولنا قوله : (وقوموا لله قانتين) وقوله : "صل قائماً" ألخ وإن قدر على القيام وحده لا مع الإمام احتمل أن يلزمه ويصلي وحده لأنه ركن ، واحتمل أنه مخير بين الأمرين لأنا أبحنا له ترك القيام المقدور عليه مع إمام الحي ، ولأن الأجر يتضاعف بالجماعة أكثر من تضاعفه بالقيام ، وهذا أحسن وهو مذهب الشافعي .
فإن عجز قاعداً صلى على جنبه مستقبل القبله بوجهه ، وهذا قول مالك والشافعي ، وقال أصحاب الرأي : يصلي مستلقياً ورجلاه إلى القبلة . ولنا قوله : "فإن لم تسطتع فعلى جنب" والمستحب أن يصلي على جنبه الأيمن فإن صلى على الأيسر جاز لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعين جنباً . وإن عجز صلى مستلقياً للخبر ، وإن كان في عينيه مرض فقال ثقات من الأطباء : إن صليت مستلقياً أمكن مداواتك فقال القاضي : قيام المذهب جوازه وهو قول الثوري ، وقال مالك : لا يجوز لما روي عن ابن عباس أنه لما كف بصره أتاه رجل فقال : لو صبرت علي سبعة أيام لم تصل إلا مستلقياً داويت عينك ورجوت أن تبرأ ، فأرسل في ذلك إلى عائشة وأبي هريرة وغيرهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل قال له : إن مت في هذه الأيام ما تصنع بالصلاة ؟ فترك معالجة عينه . ولنا أنه صلى الله عليه وسلم صلى جالساً لما جحش شقه لأجل المشقة أو خوف ضرر وأيهما قدر فهو حجة على الجواز ههنا ، ودلت الأخبار على جواز الصلاة على الراحلة خوفاً من ضرر الطين في ثيابه وبدنه ، وجاز ترك الجمعة والجماعة صيانة لنفسه ولثيابه من البلل والتلوث بالطين ، وجاز ترك القيام اتباعاً لإمام الحي والصلاة على جنبه ومستلقياً في حال الخوف ، وخبر ابن عباس إن صح فيحتمل أن المخبر لم يخبر عن يقين وإنما قال أرجو ولكونه مجهول الحال بخلاف مسألتنا ، وإن عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما ويجعل السجود أخفض ، وإن عجز عن السجود ركع وأمأ بالسجود ، وإن وضع بين يديه شيئاً عالياً جاز إذا لم يمكنه أكثر من ذلك . وحكى ابن المنذر عن أحمد قال : أختار السجود على المرفقة وهو أحب إلى من الإيماء ، وكذلك قال اسحق وجوزه الشافعي ورخص فيه ابن عباس وسجدت أم سلمة على المرفقة وكرهه ابن مسعود وقال : يوميء إيماء ولا يرفع إلى وجهه شيئاًوعن جابر وابن عمر وأنس مثله وهو مذهب مالك .
وإن لم يقدر على الإيماء برأسه أومأ بطرفه ونوى بقلبه ولا تسقط الصلاة ما دام عقله حاضراً ، وحكي عن أبي حنيفة أن الصلاة تسقط ، وذكر القاضي أنه ظاهر كلام أحمد في رواية محمد بن يزيد لما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قيل له في مرضه : الصلاة ، فقال : قد كفاني إنما العمل في الصحة ولنا (ما ذكر) من حديث عمران . ومتى قدر في أثنائها على ما كان عاجزاً عنه انتقل إليه وبنى علي ما مضى من صلاته . والله أعلم .
ومذهب أحمد أن القصر لا يجوز في أقل من ستة عشر فرسخاً مسيرة يومين وهو قول ابن عمر وهو مذهب مالك والشافعي ، وقال ابن المنذر: ثبت أن ابن عمر كان يقصر إلى أرض له هي ثلاثون ميلاً ، ونحوه عن ابن عباس فإنه قال يقصر في اليوم لا ما دونه وإليه ذهب الأوزاعي وقال ابن المنذر : عامة العلماء يقولون مسيرة يوم تام وبه نأخذ ، وري عن جماعة من السلف ما يدل على جواز القصر في أقل من يوم ، قال الأزواعي : كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ ، وعن دحية أنه خرج من قرية من دمشق مرة إلى قدر ثلاثة أميال في رمضان ثم إنه أفطر وأفطر معه أناس كثير وكره آخرون أن يفطروا فلما رجع إلى قريته قال : والله لقد رأيت اليوم أمراً ما كنت أظن أني أراه إن قوماً رغبوا عن هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقول ذلك للذين صاموا رواه أبو داود ، قال الموفق ولا أرى لما صار إليه الأئمة حجة لأن أقوال الصحابة مختلفة متعارضة ولا حجة فيها مع الاختلاف لأنه مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولأن ظاهر القرآن إباحة القصر لمن ضرب في أرض لقوله تعالى ( وإذا ضربتم في الأرض) الآية وليس له أصل يرد إليه والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الاجماع على خلافة . وليس لمن نوى السفر القصر حتى يخرج من بيوت قريته وبهذا قال مالك والشافعي ، وحكى عن عطاء أنه أباح القصر في البلد لمن نوى السفر ، وعن الحارث بن ربيعة أنه أراد سفراً فصلى بهم في منزله ركعتين وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب عبد الله ، ولنا قوله تعالى : (وإذا ضربتم في الأرض) الآية ولا يكون ضارباً حتى يخرج ، ولحديث أنس : صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعاً وبذي الحليفة ركعتين متفق عليه . إذا ثبت هذا فإنه يجوز وإن كان قريباً من البيوت ، قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه أن الذي يريد السفر له أن يقصر إذا خرج من بيوت القرية التي يخرج منها ولا تباح هذه الرخص في سفر المعصية نص عليه ، وقال الأوزاعي وأبو حنيفة له ذلك ، قال ابن المنذر : أجمعوا على أن لا يقصر في صلاة المغرب والصبح .
والجمع بين الصلاتين جائز في قول الأكثر ، وقال الحسن وابن سيرين وأصحاب الرأي : لا يجوز إلا في يوم عرفة بعرفة وليلة المزدلفة بها وهو رواية عن مالك لأن المواقيت ثبتت بالتواتر فلا يجوز تركها بخبر واحد ، ولنا ما روى نافع عن ابن عمر أنه كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء ويقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جد به السير جمع بينهما . ولحديث أنس متفق عليهما . وقولهم لا نترك الأخبار المتواترة ألخ قلنا : لا نتركها وإنما نخصصها وتخصيص المتواتر بالخبر الصحيح جائز بالإجماع وظاهر كلام الخرقي إنما يجوز الجمع إذا كان سائراً في وقت الأولى فيؤخر إلى وقت الثانية ثم يجمع بينهما ، وروي عن أحمد جواز تقديم الثانية وهو الصحيح إن شاء الله . وإن أحب الجمع جاز نازلا وسائراً مقيماً في بلد إقامة لا تمنع القصر وبه قال عطاء وجمهور علماء المدينة والشافعي واسحق لحديث معاذ في غزوة تبوك رواه أبو داود والترمذي وحسنه وروى مالك في الموطأ عن معاذ أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال : فأخر الصلاة يوماً ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً قال ابن عبد البر حديث صحيح ، وفي هذا الحديث أوضح الدلائل وأقوى الحجج في الرد على من قال لا يجمع بين الصلاتين إلا إذا جد به السير لأنه عليه السلام يجمع وهو نازل غير سائر ماكث في خبائه يخرج فيصلي الصلاتين جميعاً ثم ينصرف إلىخبائه رواه مسلم ، والأخذ بهذا الحديث متعين لثبوته والله أعلم .
والمرض الذي يلحقه بترك الجمع فيه مشقة وضعف نص أحمد على جواز الجمع للمريض ، ويجوز المجع للمستحاضة ومن به سلس البول ومافي معناهما لما في الحديث ، والمطر الذي يبل الثياب إلا أن جمع المطر يختص بالعشائين فأما الجمع لأجل المطر بين الظهر والعصر فالصحيح أنه لا يجوز قيل لأحمد الجمع بين الظهر والعصر في المطر ؟ قال : لا ما سمعته ، والمطر المبيح للجمع هو ما يبل الثياب وتلحق المشقة بالخروج فيه ، والثلج والبرد في ذلك كالمطر فأما الوحل فقال القاضي : هو عذر لأن المشقة تلحق به في النعال والثياب كالمطر وهو قول مالك ، وقيل : لا يبيح وهو مذهب الشافعي والأول أصح لأنه يساوي المطر في ترك الجمعة والجماعة ، فأما الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة فقيل : تبيح الجمع وهو قول عمر بن عبد العزيز ، وقيل : لا ، لأن المشقة فيه دون المشقة في المطر ، وهل يجوز الجمع للمنفرد أو من كان طريقه إلى المسجد في ظلال يمنع المطر أو من كان مقامه في المسجد؟ على وجهين : أحدهما الجواز لأن العذر إذا وجد استوى فيه حال المشقة وعدمها كالسفر ، ولأن الحاجة العامة إذا وجدت ثبت الحكم فيمن ليس له حاجة كالسلم وإباحة اقتناء الكلب للصيد والماشية لمن لا يحتاج إليهما ولأنه روي أنه صلى الله عليه وسلم جمع في مطر وليس بين حجرته والمسجد شيء . والثاني : المنع لأن الجمع لأجل المشقة ، ويجوز الجمع لمرض وهو قول عطاء ومالك ، وقال الشافعي : لا يجوز لأن أخبار التوقيت لا تترك بأمر محتمل ، ولنا قوله : جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر ، وفي رواية من غير خوف ولا سفر . رواه مسلم ، وقد أجمعنا على أن الجمع لا يجوز لغير عذر فثبت أنه كان لمرض ، وروي عن أحمد في حديث ابن عباس هذا قال : فيه رخصة عندي للمريض والمرضع وقد أمر سهلة وحمنة بالجمع لأجل الاستحاضة وأخبار المواقيت مخصومة بالصور التي أجمعنا عليها . وسئل أحمد عن الجمع بين الصلاتين في المطر قال : يجمع بينهما إذا اختلفط الظلام قبل أن يغيب الشفق كذا صنع ابن عمر ، وقال الأثرم : حدثنا أبو أسامة حدثنا عبيد الله عن نافع قال : كان أمراؤنا إذا كانت الليلة المطيرة أبطأوا بالمغرب وعجلوا بالعشاء قبل أن يغيب الشفق فكان ابن عمر يصلي معهم ، قال عبيد الله : ورأيت القاسم وسالماً يصليان معهم ، قيل لأحمد : فكأن سنة الجمع في المطر عندك قبل أن يغيب الشفق وفي السفر تؤخر حتى يغيب الشفق ؟ قال : نعم .
ولا يجوز الجمع لغير ما ذكرنا ، وقال ابن شبرمة : يجوز إذا كان حاجة أو شيء ما لم يتخذ عادة لحديث ابن عباس ، وفيه أراد أن يحرج أمته . وإذا سافر بعد دخول وقت الصلاة قال ابن عقيل : فيه روايتان إحداهما له ، قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه أن له قصرها وإذا دخل مع مقيم أتم ، قال الأثرم : سألت أحمد عن المسافر يدخل في تشهده المقيم ؟ قال : يصلي أربعاً روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وبه قال الشافعي ، وقال اسحاق : له القصر ، وقال مالك : إن أدرك ركعة من الصلاة أتم وإن أدرك دونها قصر لقوله : " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها " ولنا ما روي عن ابن عباس قيل له ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد وأربعاً إذا ائتم بمقيم ؟ قال تلك السنة رواه أحمد . وكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعاً رواه مسلم ولقوله : "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه " وأجمع أهل العلم على أن المقيم إذا ائتم بمسافر وسلم المسافر من ركعتين أن على المقيم الإتمام ، وإذا أم المسافر المقيمين فأتم فصلاتهم صحيحة وبه قال الشافعي ، وقال الثوري تفسد صلاة المقيمين لأن الآخرتين نفل من الإمام .
والمشهور عن أحمد أن المدة التي يلزم المسافر الإتمام بنية الإقامة فيها هي ما كان أكثر من إحدى وعشرين صلاة ، وعنه إن نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أتم وهو قول مالك والشافعي لأن الثلاث حد القلة ولقوله : "يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً" وقال الثوري : إن أقام خمسة عشر يوماً مع اليوم الذي يخرج فيه أتم روي ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير والليث ، وعن ابن عباس أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره تسعة عشر يصلي ركعتين فنحن إذا أقمناها نصلي ركعيتن وإن زدنا أتممنا رواه البخاري ، وقال الحسن : صل ركعتين إلا أن تقدم مصراً ، ولنا أنه صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عشراً يقصر متفق عليه ، وذكر أحمد حديث جابر وابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قدم لصبح رابعة فأقام الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن وكان يقصر في هذه الأيام وقد أجمع على إقامتها فإذا أجمع أن يقيم كما أقام صلى الله عليه وسلم قصر ، وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتم ، قال : وحديث أنس كلام ليس يفقهه كل أحد : قوله : أقام عشراً يقصر قدم لصبح رابعة وخامسة وسادسة وسابعة ثم قال : وثامنة يوم التروية وتاسعة وعاشرة فإنما وجه حديث أنس أنه حسب مقامه بمنى ومكة ، وإن مر في طريقه على بلد له فيه أهل أو مال فقال أحمد في موضع : يتم ، وقال في موضع : يتم إلا أن يكون ماراً ، وقال الشافعي وابن المنذر : يقصر ما لم يجمع على إقامة أربع . ومن لم يجمع الإقامة مدة تزيد على ما ذكرنا فله القصر ولو أقام سنين حكاه ابن المنذر اجماعاً. ولا بأس بالطوع نازلا وسائراً على الراحلة ويصلي ركعتي الفجر ولاوتر ، وأما سائر السنن والتطوعات فقال أحمد : أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس ،وعن الحسن كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها وهو قول مالك والشافعي ، وكان ابن عمر لا يتطوع إلا من جوف الليل ونقل عن ابن المسيب وسعيد ابن جبير وعلي ابن الحسين .
والخوف لا يؤثر في عدد الركعات للإمام والمأموم جميعاً فإذا كان في سفر يبيح القصر صلى بهم ركعتين بكل طائفة ركعة وتتم لأنفسها أخرى ويطيل التشهد حتى يتموا التشهد ويسلم بهم ، قال القاضي : من شرطها كون العدو في غير جهة القبلة ، ونصل أحمد على خلاف ذلك . قال الأثرم : قلت حديث سهل نستعمله مستقبلين القبلة أو مستدبرين قال : نعم هو انكاء لأن العدو قد يكون في جهة القبلة على وجه لا يمكن أن يصلي بهم صلاة عسفان لانتشارهم أو خوف كمين . ويقرأ وتشهد ويطيل حال الانتظار ، وقال الشافعي في أحد قوليه ك لا يقرأ حال الانتظار بل يؤخر القراءة ليقرأ بالطائفة الثانية ليسوى بين الطائفتين ، ولنا أن الصلاة ليس فيها محل سكوت والقيام محل القراءة كالتشهد إذا انتظرهم فله يتشهد ولا يسكت ، وإذا جلس للتشهد قاموا فصلو ركعة أخرى وأطال حتى يدركوه ويسلم بهم ، وقال مالك : يتشهدون معه فإذا سلم قاموا فقضوا ، وما ذكرناه أولى لقوله : (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك) وهو يدل على أن صلاتهم كلها معه ، وفي حديث سهل أنه صلى الله عليه وسلم قعد حتى صلى الذين خلفه ركعة ثم سلم رواه أبو داود ، وروي أنه سلم بالطائفة الثانية وبه قال مالك والشافعي إلا فيما ذكرنا ، وقال أبو حنيفة : يصلي كما روى ابن عمر قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة وسجدتين والطائفة الأخرى مواجهة العدو ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم مقبلين على العدو وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة متفق عليه ، وقال أبو حنيفة : يصلي بإحدى الطائفتين ركعة والأخرى مواجهة العدو ثم تنصرف التي صلت معه إلى وجه العدو وهي في صلاتها ثم تجيء الأخرى فتصلي معه الركعة الثانية ثم يسلم الإمام وترجع إلى وجه العدو هي في الصلاة ثم تأتي الطائفة الأولى إلى موضع صلاتها فتصلي ركعة منفردة لا تقرأ فيها لأنها في حكم الائتمام ثم تنصرف إلى وجه العدو ، ثم تأتي الأخرى فتفعل كذلك إلا أنها تقرأ لأنها فارقت الإمام . ولنا ماروى صالح بن خوات عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم رواه مسلم . وروى سهل بن أبي حثمة مثله .
وهذا أشبه بكتاب الله فإن قوله تعالى : ( ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ) يقتضي أن جميع صلاتها معه ، وعنده تصلي ركعة معه فقط ، وعندنا جميع صلاتها معه إحدى الركعتين توافقه في أفعاله والثانية تأتي بها قبل سلامه ثم تسلم معه . ومن مفهوم قوله (لم يصلوا) أن الأولى قد صلت جميع صلاتها وعلى قولهم لم تصل إلا بعضها . وإن خاف وهو مقيم صلى بكل طائفة ركعتين . وصلاة الخوف جائزة في الحضر وبه قال الشافعي ، وعن مالك لا تجوز في الحضر لأن الآية إنما دلت على ركعتين ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يفعلها في الحضر ، ولنا قوله تعالى : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ) وهو عام في كل حال وتركه صلى الله عليه وسلم لفعلها في الحضر لغنائه عنها . قولهم إنما دلت على ركعتين قلنا قد يكون في الحضر الصبح والجمعة ، وإذا صلى بهم الرباعية صلى بكل طائفة ركعتين فهل تفارقه الأولي في التشهد أو حين يقوم إلى الثالثة ؟ الثاني قول مالك لأنه يحتاج إلى التطويل من أجل الانتظار والتشهد الأول يستحب تخفيفه ، وإن كانت الصلاة مغرباً صلى بالطائفة الأولى ركعتين وأتمت لأنفسها ركعة وبالأخرى ركعة وأتمت لأنفسها ركعتين وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه ، وفي الآخر يصلي بالأولى ركعه وبالثانية ركعتين لأنه روي عن علي أنه صلى ليلة الهرير هكذا . ويستحب أن يحمل السلاح فيها لقوله تعالى : ( وليأخذوا أسلحتهم ) ولأنهم لا يأمنون أن يفاجأهم العدو فيميلون عليه ميلة واجدة كما في الآية ، ولا يجب حمله في قول أكثر أهل العلم ، ويحتمل الوجوب وبه قال داود والشافعي في أحد قوليه ، والحجة معهم لأن ظاهر الأمر الوجوب . وقد اقترن به قوله : ( ولا جناح علكيم إن كان بكم أذى ) الآية . فإن كان بهم لم يجب بغير خلاف لتصريح النص به .
ويجوز أن يصلي على كل صفة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم ، قال أحمد كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز ، وقال ستة وجوه أو سبعة تروى فيها كلها جائزة ، قال الأثرم : قلت له : تقول بالأحاديث كل حديث في موضعه أو تختار واحداً منها ؟ قال من ذهب إليها كلها فحسن وأنا أختار حديث سهل ، وقد ذكرنا منها وجهين حديث سهل وحديث ابن عمر .
والثالث صلاة عسفان قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة والمشركون أمامه فصف : خلفه صف وصف خلف ذلك الصف صف فركع رسول الله وركعوا جميعاًثم سجد وسجد الصف الذي يليه وقام الآخر يحرس ، فلما صلى بهؤلاء السجدتين وقاموا سجد الذين خلفهم ثم تأخر الصف الأول إلى مقام الآخرين وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول ثم ركع وركعوا جميعاً ثم سجد وسجد الصف الذي يليه وقام الآخرون يحرسون ، فلما جلس والذي يليه سجد الآخرون ثم جلسوا جميعاً فسلم عليهم ، فصلاها بعسفان وصلاها يوم بني سليم رواه أبو اداود ، وروى جابر عنه صلى الله عليه وسلم نحوه أخرجه مسلم .
الوجه الرابع أن يصلي بكل طائفة صلاة منفردة ويسلم بها كما رواه أبو بكره أخرجه أبو داود ، وهذه حسنة قليلة الكلفة وهي مذهب الحسن ليس فيها أكثر من أن الإمام في الثانية متنقل يؤم مفترضين .
الوجه الخامس أن يصلي بالطائفة الأولى ركعتين ولا يسلم ثم تسلم الطائفة وتنصرف ولا تقضي شيئاً وتأتي الأخرى فيصلي بها ركعتين ويسلم بها ولا تقضي شيئاً ، وهذا مثل الذي قبله إلا أن الإمام لا يسلم في الأوليين لحديث جابر في ذات الرقاع متفق عليه ، وتأوله القاضي على أنه صلى بهم كصلاة الحضر وأن كل طائفة قضت ركعتين ، وهذا ظاهر الفساد لأنه صفة الرواية وقول أحمد .
والوجه السادس أن يصلي بكل طائفة ركعة ولا تقضي شيئاً لحديث ابن عباس يوم ذي قرد رواه الأثرم ، ولأبي داود نحوه من حديث حذيفة ، وروي مثله عن زيد بن ثابت وأبي هريرة ، قال أبو داود في السنن : هو مذهب ابن عباس وجابر ، قال جابر : إنما القصر ركعة عند القتال ، وقال طاوس والحسن ومجاهد وقتادة : ركعة في شدة الخوف يؤميء إيماء ، قال اسحق : يجزيك عند الشدة ركعة تؤميء إيماء فإن لم تقدر فسجدة واحدة فإن لم تقدر فتكبيرة ، وهذه الصلاة يقتضي عموم كلام أحمد جوازها لأنه ذكر ستة أوجه ولا أعلم وجهاً سادساً سواها ، وأصحابنا ينكرون ذلك قال القاضي : لا تأثير للخوف في عدد الركعات وهذا قول أكثر أهل العلم ، والذي قال ركعة إنما جعلها عند شدة القتال .
وإذا كان الخوف شديداً وهم في حال المسايفة صلوا رجالاً وركباناً إلى القبلة وإلى غيرها يؤمئون إيماء ويكرون ويفرون ولا يؤخرون الصلاة ، وهذا قول أكثر أهل العلم ، وقال أبو حنيفة : لا يصلي مع المسايفة ولا مع المشي لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل يوم الخندق وأخرها ، ولنا قوله تعالى : ( فإن خفتم فرجالا أو ركباناً ) قال ابن عمر : فإن كان خوفاً أشد من ذلك صلوا رجالا قياماً على أقدامهم وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها متفق عليه ، ولأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالمشي إلى وجاه العدو ثم يعودون لما بقي وهذا مشى كثير وعمل طويل واستدبار القبلة ، ومن العجب أن أبا حنيفة اختار هذا الوجه دون سائر الوجوه التي لا تشتمل على العمل وسوغه مع إمكان الصلاة بدونه ثم منعه في حال لا يقدر إلا عليه ، وكان العكس أولى لا سيما مع نص الله سبحانه على الرخصة في هذه الحال ، وأما تأخيره يوم الخندق فروى أبو سعيد أنه قبل نزول صلاة الخوف ، ويحتمل أنه نسي الصلاة فقد نقل عنه ما يدل على ذلك .
وإن هرب من عدو هرباً مباحاً أو سيل أو سبع لا يمكنه التخلص بدون الهرب صلى صلاة شدة الخوف سواء خاف على نفسه أو أهله أو ماله ، نص عليه أحمد في الأسير .
ومن هنا إلى آخر الباب من (الانصاف) :
قال الشيخ : ولو عجز المريض عن الإيماء برأسه سقطت عنه الصلاة ولا يلزمه الإيماء بطرفه ، واختار جواز القصر في سفر المعصية وجوز القصر في مسافة فرسخ وقال :إن حد فتحديده ببريد أجود ، قال : ولا حجة للتحديد بل الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الاجماع على خلافه ، واختار كراهة الاتمام للمسافر وقال : يسن ترك التطوع بغير الوتر وسنة الفجر ، ونقل ابن هاني يتطوع أفضل واختاره الشيخ في غير الرواتب ، واختار أن الجمع والقصر لا يحتاج إلى نية ، وقال : في البلغة إقامة الجيش للغزو لا تمنع الترخص وإن طالت لفعله صلى الله عليه وسلم ، واختار الشيخ أن المسافر له القصر والفطر ما لم يجمع على إقامة ويستوطن ، وقال : الجمع بين الصلاتين في السفر يختص بمحل الحاجة لأنه من رخص السفر المطلقة كالقصر ، واختار الشيخ جواز الجمع للطباخ والخباز ونحوهما ممن يخشى فساد ماله أو مال غيره بترك الجمع ، قال أحمد : الجمع في الحضر إذا كان من ضرورة مثل مرض أو شغل ، واختار الشيخ أن الجمع بين الظهر والعصر يجوز للمطر ، واختار جواز الجمع لتحصيل الجماعة ، والصلاة في حمام مع جوازها فيه خوف فوات الوقت ولخوف يخرج في تركه أي مشقة ، وأن الأفضل فعل الأرفق به من تقديم وتأخير ، واختار في جمع التقديم عدم اشتراط الموالاة ، ويجوز للخائف فوات وقت الوقوف بعرفة صلاة الخوف . (اختاره الشيخ) .