موعدنا مع نصر عظيم حققه المسلمون على النصارى الأرمن في شهر رمضان من سنة ثلاث وسبعين وستمائة هجرية (673هـ).
وأما مكان هذا النصر فهو الجنوب الشرقي من آسيا الصغرى بين جبال طوروس والبحر المتوسط.
والحقيقة أن هذه المنطقة التي أطلق عليها المسلمون اسم الدرب تمثل الحدود المتاخمة لبلاد الروم؛ ولذا اهتم بها المسلمون منذ وقت مبكر نظرًا لموقعها الاستراتيجي على أبواب دولة الروم، وأصبحت مدنها ومراكزها ثغورًا من أهم الثغور الإسلامية وأكثرها خطرًا؛ فشحنها الخلفاء المسلمون بالرجال والسلاح، وجعلوا منها مراكز حصينة للدفاع عن أراضي المسلمين، وأصبحت تُعرف بثغور الشام. واشتهر من هذه الثغور مدن طرسوس، وأذنة، والمصيصة، والخلفاء مهتمون بأمرها ولا يولُّونها إلا شجعان القواد والراغبين منهم في الجهاد.
وبعد قرون من القوة والمنعة، أصاب هذه الثغور الضعف نتيجة عدم الاهتمام بها، واستغل الروم ذلك فهاجموها واستولوا عليها، ومنذ ذلك الوقت خرجت تلك الثغور من يد المسلمين وعادت للروم، ثم بدأت أعداد من النصارى الأرمن يستقرون فيها، واستطاعوا تشكيل كيان ثابت لهم في تلك البقاع، سرعان ما تحول إلى دويلة صليبية في شمال العالم الإسلامي.
وحينما جاءت الحملات الصليبية إلى العالم الإسلامي فرح بها هؤلاء الأرمن، وقدَّموا لرجالها كل المساعدة، وأعانوهم على المسلمين، ودلوهم على عوراتهم، بل إن الأرمن اشتركوا بصورة مباشرة في الحرب ضد المسلمين، وكانوا عليهم أشدَّ من نصارى أوربا وأعنف، ولا عجب فملة الكفر واحدة.
ولم يكتف الأرمن بذلك بل كان لهم أثر كبير في تشجيع المغول الوثنيين ودعوتهم لمهاجمة المسلمين، وعقد ملوك أرمينيا الصغرى تحالفًا معهم ضد المسلمين. ولما جاءت الجيوش المغولية، واكتسحت العالم الإسلامي انضمت جموع النصارى من الأرمن وغيرهم معهم، وكانوا لا يقلون عنفًا وقسوة في تعاملهم مع المسلمين. وهذا هو الذي جعل المسلمين يعدّون الأرمن "أخبث عدو للمسلمين"، كما يقول أحد المؤرخين.
ولكن الأمة الإسلامية كانت لا تستكين للهزيمة، ولا تستسلم للذل، وهذا هو ما يريده الله I لها، أمة مستعلية بدينها، منتصرة بعقيدتها، مستمدة أسباب ذلك منه .
وبعد أن أفاقت الأمة الإسلامية من هول الاكتساح المغولي، بدأ حكامها في العمل على تقويتها، وأدركوا مدى الخطر العظيم الذي يمثله نصارى الأرمن على حدود الدولة الشمالية، فخططوا لإخضاعهم وكسر شوكتهم، وكان ذلك في عهد السلطان المملوكي (الظاهر بيبرس).
وهذا الحاكم المسلم واحد من أعظم قادة الأمة الإسلامية في التاريخ، حقق الله على يديه لأمة الإسلام انتصارات عظيمة على المغول والصليبيين، ووضع -رحمه الله- مملكة أرمينيا الصغرى نصب عينيه، وانتهز فرصة هدوء الأوضاع على جبهات القتال مع المغول والصليبيين، فكوَّن جيشًا عظيمًا هدفُه استعادة أملاك المسلمين التي استولى عليها نصارى الأرمن، ولكنه أسرَّ ذلك ولم يُطلِع عليه أحدًا من قادته، وسار الجيش الإسلامي من مصر قاصدًا الشام، ثم اتجه شمالاً إلى بلاد الثغور، وكان بيبرس على رأس الجيش ووصلوا إلى تلك المناطق، ولنترك وصف مسير هذا الجيش لمؤرخ معاصر لهذه الحملة هو ابن عبد الظاهر حيث يقول: "ووصل الجيش النهرَ الأسودَ، وقطعته العساكر بمشقة، ووقف السلطان حتى عدَّى بأكثر الناس، وفرق الأمراء بجيوشهم كلُّ واحد منهم إلى جهة، فطلعوا الجبال وما سأل أحد عن طريق، ولا بالى بمضيق، ومروا وعليهم جبال من الحديد لامعة، وسنابك الخيل تتلوى على الجبال، والأرض ترج رجًّا، والجبال تبسُّ بسًّا، وتغدو هباء منبثًّا".
وتساقطت مدن الثغور الواحدة تلو الأخرى في يد المسلمين، وكان ذلك في شهر رمضان. وعيّد السلطان بيبرس -رحمه الله- في مدينة (سيس) وهي كرسيُّ المملكة الأرمينية، واستولى على قصر الملك، واتجهت فرقة من الجيش المملوكي إلى مدينة (إياس) وهي ميناء أرمينية على البحر الأبيض فاستولت عليها، وفرت مجموعة من الأرمن والفرنج عبر البحر فغرقوا فيه.
وهكذا لم يكمُل شهر رمضان إلا والجيوش الإسلامية قد أتمت استعادة بلاد الثغر، واستحق السلطان بيبرس أن يوصف بقاهر الصليبيين والمغول. ولا غزو في ذلك، فهو تلميذ صلاح الدين -رحمه الله- سار على منهجه، واتبع خُطاه في الجهاد، فحقق الله على يديه النصر العظيم، وكان ذلك بعد عمل دءوب وكفاح مستمر وتحقيق لعوامل النصر كما أوضحها القرآن الكريم؛ فالنصر دائمًا مع المسلمين إن هم صدقوا الله وطبقوا شرعه وعملوا بمقتضاه.
وتغنى الشعراء بهذا النصر العظيم وخلدوه في شعرهم، يقول أحدهم:
أي يوم بنصره قـد حُبينـا *** وبـه اللهُ قد أقرَّ العيـونا
يوم جزنا بلاد سيس وقلنـا *** أيَّ نصرٍ من ربنا قد جُزينا
إذ تبدى السلطـان بين نجوم *** من بني الترك يعشقون المنونا
إلى أن يقول:
وترامت كـل البـلاد وقالت *** ليتنا مثل سيس قد غُـزينا
ليت جيش السلطان وافى إلينا *** ليت أنَّا بخيـله قد وُطـينا
وصدق الشاعر، فكم من البلاد تتمنى حكم المسلمين! وتحنُّ إلى عدلهم ورحمتهم.