يأنس الناس ببعضهم، وكل له في أنيسه مذهب؛ والسعيد هو من كان أنسه بالله وما يرضي الله من صلة به - تعالى -، وقرب منه، وتلذذ بذكره، وهذا هو أكمل الأُنس كما قال ابن القيم - رحمه الله -: "في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار منه إليه"1.
فمن أنِس بالله أنس بالحياة، وسعد بالوجود، وتلذذ بالأيام، قلبه مطمئن، وفؤاده مستنير، وصدره منشرح {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ}2، وإذا امتلأ القلب بجلال الله - سبحانه - حَلَتِ الحياة، وعَذُبَت الدنيا، واستنارت البصيرة، وانكشفت الهموم والغموم.
وشهر رمضان نعتقد أنه شهر الأنس بالله، والقرب منه، وقوة الاتصال به؛ فكان لابد أن نكون أكثر الناس حرصاً على كل لحظاته ليحصل الأنس الحقيقي، وأن يقال هذا الكلام ليعيه الناس، ويحاولون تطبيقه، رجالاً ونساءً.
وتبقى المرأة مشغولة بطبخها، مستأنسة بأكلاتها، منغمسة بين أطباقها؛ فيدخل عليها شهر رمضان ويخرج ولم تذق بعد حلاوة الأنس بربها.
فإلى أختي المسلمة: من أدركت شهر الرحمة، ووافقت شهر المغفرة، وواكبت شهر التوبة، إليك أيتها الباحثة عن المخرج من الهم والغم، إليك يا من تباتين ترقبين الفرج من الله؟ ماذا لو سألناك: أأنست بالله حتى تنتظرين الفرج منه؟
والأنس به لا يأتي بلا سبب، ولا يحصل بلا تعب، بل هو ثمرة للطاعة، ونتيجة للمحبة، فمن أطاع الله، وامتثل أمره، واجتنب نهيه، وصدق في محبته؛ وجد للأنس طعماً، وللقرب لذة، وللمناجاة سعادة.
وإذا تأملنا الواقع، وكيف تقضي كثير من النساء وقتها في رمضان؛ رثينا لحالها وعزيناها، فالنوم في نهار رمضان يأخذ نصيب الأسد من وقتها، ثم يأتي في الدرجة الثانية الطبخ، فتنام إلى الظهيرة، ثم تبدأ بترتيب المنزل، والدخول إلى المطبخ لإعداد وجبة الإفطار إلى حوالي العصر، وبعد العصر تعد المشروبات ومائدة الإفطار، وبعد الإفطار الاستعداد لمأدبة العشاء، وبعد العشاء العودة للمطبخ لغسل الأواني، ثم الاشتغال بالمسلسلات، أو المكالمات الهاتفية الفضولية، أو التجول في الأسواق بلا ضرورة ولا حاجة، وهكذا!! إلى وقت السحور، ثم إعداد وجبة السحور، ثم النوم!! فهل تكون بذلك قد أنست بالله، هل استفادت من شهر الرحمات؟ وهل تعرَّضَت لنفحات الرحمن؟
نعم لو أنها احتسبت في كثير من أعمالها لكانت لها غُنماً وفائدة، لكن انظري كيف كان حال أسلافنا مع أوقاتهم: نُقل عن عامر بن عبد قيس أحد التابعين الزهَّاد أن رجلاً قال له: كلمني، فقال له: عامر بن عبد قيس: أمسك الشمس (أي لأستطيع أن أضيع على نفسي وقتها بكلامي معك).
إن أوقات رمضان هي من أجلِّ الأوقات، وأعزِّ اللحظات؛ على المسلم، أليس هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن، أليس هو الشهر الذي من صامه إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، أليس فيه ليلة هي خير من ألف شهر كما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - مبشراً أصحابه: ((قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، يفتح فيه أبواب الجنة، ويغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلُّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم))3.
فيا أيتها الأخت المسلمة سارعي إلى الأنس الحقيقي في هذا الشهر الكريم، داومي على قراءة القرآن في شهر القرآن: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}4، لم لا وجبريل - عليه السلام - يدارس النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن مرتين في رمضان، والإمام الزهري كان إذا دخل رمضان يقول: إنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام، وكان الإمام أحمد بن حنبل يختم القرآن في كل أسبوع (أي قراءة ثمان وثمانين صفحة كل يوم تقريباً)، فاقتدي رحمك الله بأولئك الأخيار الأطهار، واغتنمي ساعات الليل والنهار.
أخيتي: ما ألذَّ الذكر وأعظمه في رمضان، فلتحرصي على الأوراد اليومية، ولتزيدي ما يقربك إلى رب البرية كقول: لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وكثرة الاستغفار فإنه يورثك الطوبى عند لقاء ربك، ولا تنسي الصلاة على النبي المصطفى، وغيره مما يدخل في قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}5.
واعلمي أخيتي أن إيناس المؤمن التقي يزداد بما يقدم من خير، وما يهب من صدقة يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن))6، وهذا ما يحصل حقيقة عندما تبذلين في سبيل الله - وبخاصة في هذا الشهر الكريم الذي كان فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أجود ما يكون7.
ومن الأنس الحسي والمعنوي ما يكون من عمرة في شهر رمضان، فإنها في رمضان كحجة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -8.
وتأتي التوبة كدواء شاف بإذن الله - تعالى - يلمم الجراح، وبلسم يأنس به المكلوم، إذ شهر رمضان هو شهر التوبة والإنابة، فأقبلي فيه على الله بالتوبة والندم على ما فات كي تبدل السيئات حسنات {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}9.
اللهم إنا نسأل الأنس بقربك، والفوز بمغفرتك، وصل اللهم على محمد عبدك ورسولك.
......................................................................................
1 مدارج السالكين (3/164).
2 سورة الزمر (22).
3 مسند أحمد (8979)، وقال شعيب الأرناؤوط: صحيح وهذا سند رجاله ثقات، انظر المسند بتحقيق الأرناؤوط (2/385).
4 سورة البقرة (185).
5 سورة الأحزاب (41).
6 مسند أحمد (114)، وقال شعيب الأرناؤوط : إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين، انظر تعليقه على المسند (1/ 18).
7 صحيح البخاري (1/ 6)، وصحيح مسلم (4/ 1803).
8 صحيح البخاري (2/ 659)، وصحيح مسلم (2/ 917).
9 سورة النور (31).