حديثنا عن تقوى الله تعالى..
التقوى هو: القيام بالدين، بفعل الأوامر، واجتناب النواهي.
وهو واجب فرض على كل مسلم ومسلمة، لأمره - عز وجل - به في آيات كثيرة، كقوله:- { واتقوا الله إن كنتم مؤمنين}.
وحقيقته: أن يتحاشى العبد سخط الجبار وغضبه أن يحل عليه؛ لأن من غضب الله عليه فقد هلك:
- { ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى}.
وبما أن العبد لا قدرة له على تحمل غضب ربه وسخطه، فالعقل يملي عليه أن يجتنب معاصيه؛ لكيلا يحل به عذابه، وهذا هو التقوى.. قال بعضهم:
- " حقيقة الاتقاء: التحرز بطاعته من عقوبته،. وأصل التقوى: اتقاء الشرك، ثم المعاصي، ثم الشبهات، ثم الفضلات".
- وقال طلق بن حبيب: " التقوى: عمل بطاعة الله، على نور من الله، رجاء ثواب الله، وترك معاصي الله، على نور من الله، مخافة عقاب الله".
- وقال ميمون بن مهران: " لا يكون الرجل تقياً، حتى يكون لنفسه أشد محاسبة، من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين: ملبسه، ومطعمه، ومشربه".
[جامع العلوم والحكم شرح حديث: (اتق الله حيثما كنت)]
والإنسان إذا لقي خصماً اتقاه بحسبه، فكلما زادت قوته، ازداد له اتقاء وتحرزا، والله - سبحانه - له القوة جميعاً، لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض:
- " قل الله أسرع مكراً".
لذا يجب على الناس أن يتقوه؛ لأنه إذا كان في إمكان الإنسان أن يروغ من خصمه، ويفلت من يده، فإن من المحال أن يروغ ويفلت من قبضة الإله تعالى.
والله - سبحانه - يدعو عباده إلى تقواه فيقول:
- { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين * لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون}.
فإنه لا ينجو عنده يوم القيامة إلا من اتقاه، قال:
- { وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولاهم يحزنون}.
والجنة لا يدخلها إلا المتقون، قال - سبحانه -:
- { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين}.
فالجنة أعدت للمتقين، ولا يشتاق إلى الجنة إلا المتقون:
- {وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون}.
وصفات المتقين هي:
- {الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين * والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكر الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون * أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين}.
الإنفاق في السراء والضراء، وكظم الغيظ، والعفو والإحسان، والإقلاع عن الذنوب، هي صفات المتقين:
فأما الإنفاق فعلاقته بالتقوى تظهر من: كون المنفق يتقي بصدقته غضب ربه. كما في الأثر:
- (والصدقة تطفئ غضب الرب).
وأما كظم الغيظ والعفو والإحسان، فعلاقتها بالتقوى تظهر من: كونها تقي الإنسان مصارع السوء. كما قيل:
- " صنائع المعروف، تقي مصارع السوء".
وأما عن علاقة الإقلاع عن الذنب بالتقوى، فتظهر من: كون التائب يتقي بتركه الذنب عقوبة الرب.
وارتكاب الذنوب صغيرها وكبيرها في أصل الأمر لا ينافي التقوى؛ لأن العبد مكتوب عليه الذنب، إنما الذي ينافيه الإصرار عليها؛ ولذا قال تعالى: "ولم يصروا.. " ما قال: لم يذنبوا.
وإنما المتقي هو الذي إذا أذنب ذكر الله فندم، واستغفر، وأقلع وعزم على عدم العودة، كما قال ربنا:
- { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون}.
ولعظم التقوى فإن الله وصى به الأولين والآخرين، فقال:
- { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله}.
هذا وإن مما يجب أن يتقيه الرجل فتنة النساء لقول رسول الله:
- (إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)، رواه مسلم عن أبي سعيد.
فإن من لم يتق النساء، فانساق وراء شهواته منهن ولج باب الشيطان، فصار عاريا من الإيمان، وتعرض لسخط الرب إذا أصر، والعادة معلومة: أن من افتتن بالنساء، لا يعود إلى رشده إلا بعد أن يقطع شوطا كبيرا، يهدم خلاله شيئا كبيرا من إيمانه وأخلاقه.
ففتنة النساء أعظم الفتن، لا يكاد يصمد أمامها إنسان؛ لذا فالتعرض لها والبحث عن أسبابها هلاك وبوار.
وقد وعد الله المتقين بالنور المبين، به يفرقون بين الحق والباطل، فقال - سبحانه -:
{يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم}.
وهذه هي فراسة المؤمن الذي ينظر بنور الله، ومثل هذا محفوظ من الانزلاق والضلال بما معه من الهدى والنور.
حق على العباد أن يتقوا مولاهم، قال - سبحانه -:
- { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
قال بعضهم: هذه الآية منسوخة. فمن ذا الذي يقدر أن يتقيه حق التقوى؟..
لكن بعض المفسرين قال: هي محكمة، وهي مفسرة بقوله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم }، { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به }، قال الله تعالى: (قد فعلت). فالقدر الواجب من التقوى هو:
ما نقدر عليه ونطيقه، ليس هو حق التقوى وكماله.
- قال ابن مسعود: " حق التقوى: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر"..
إن الإسلام يجعل التقوى من أسباب الحسب والمنزلة، قال رسول الله:
- (الحسب: المال، والكرم، والتقوى). [صحيح الجامع 3178]
ومنازل الجنة بحسب التقوى، فمن زاد تقواه، ارتفعت منزلته، ومن عدم التقوى، أبدل مقعده في الجنة بمقعد في النار، فالجنة لا تكون إلا للمتقين.
إن التقوى لا تختص بمكان أو زمان أو حال لقول - عليه السلام -:- " اتق الله حيثما كنت". [رواه الترمذي]
في البر أو البحر.. في الليل أو النهار.. في السر أو العلن.. منفردا أو مع الناس.. في رمضان وغير رمضان.
وقد كان رسول الله إذا خطب الناس: ذكرهم بتقوى الله دائما في كل خطبة.
والقرآن يذكر التقوى كثيرا، لكن الناس لا يلتفتون إلى معنى هذه الكلمة..
وحرص الرسول على التذكير بها، وحرص القرآن على التنويه بها: يدل على أهميتها. كما قد تبين لنا ذلك.
إن الحديث عن التقوى يجرنا إلى الحديث عن رمضان شهر الصوم، قال - سبحانه -:{ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}.
أي تتقوا المعاصي، فإنه كلما قل الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي؛ لأن مجاري الدم تضيق بالشيطان فلا يجد مسلكا، وهذا هو القصد من الصوم، قال رسول الله
الصيام جُنَّة).
فهو في جنة من: الآثام، والعذاب، والعلل؛ أي وقاية وحماية.
ونحن في هذا الشهر العظيم في حاجة إلى أن نتذكر تقوى الله - سبحانه -؛ فإن من المؤلم أن نرى العصيان يكثر في شهر كان ينبغي أن يقل فيه إن لم يعدم:
أفواج من العاصين ينتشرون في كل مكان، في ليالي رمضان، يرتكبون الموبقات، دون خوف من رب العالمين.. !!..
الناس بين: راكع، وساجد، ومعتكف، ومتصدق، وقارئ. وهؤلاء بين غزل، وأغان، ونظر وسماع محرم، وتبرج، واختلاط، وفاحشة وفجور.. !!.
وإن تعجب فاعجب، وإن شئت فاحزن لما تقدمه وسائل الإعلام في ليالي هذا الشهر العظيم، ولسان حالهم يقول:
- دعوكم من العبادة، وأقبلوا على الشهوات.. !!.
- دعوكم من التقوى، وقوموا إلى البلوى.. !!.
لا أطيل في سرد ما يفسد الإيمان في الشهر، إلا أننا نذكر أن هذا الفعل، وهذا الإلهاء عن ذكر الله، وتزيين الفاحشة والمنكرات، وعرضها ونشرها في هذا الشهر خاصة: لا يصدر من مؤمن يخاف الله ويتقيه. ؟!!.
ولو أنه من المتقين، أو فيه شيء من التقوى، لاستحى من ربه، ولأقلع عن هذا الجرم إكراما لشهر رمضان:
- " أياما معدودات".
هذا الذي يستقبل رمضان بالأغاني، والأفلام، والمسلسلات، والملاهي: هل هو من المتقين؟!!.
هذا الذي يستقبل رمضان بالمعاصي، والغزل، والفجور: هل هو من المتقين؟!!.
تلك التي تستقبل رمضان بالتبرج، والاختلاط، والشهوات المحرمة: هل هي من المتقين؟!!.
ذاك الذي لا يمتنع عن البيع المحرم: هل هو من المتقين؟!!..
ذاك الذي يمارس القمار، والميسر، واليانصيب، بصور شتى، ومنها: ((اتصل، واربح)).. !!:
هل هو من المتقين؟!
سبحان الله! الله يريد بنا يسرا، ونحن نريد بأنفسنا عسرا.. !!.
شرع لنا رمضان لتنشرح صدرونا، وتتزكى نفوسنا، وتعلو مراتبنا، وهذا من اليسر، لكن أبينا إلا العسر، فضيقنا صدورنا، وأفسدنا نفوسنا، وصرنا أسفل سافلين، حينما نسينا الغاية من الصوم:
- " لعلكم تتقون".
فهذا الشهر بين أيدينا اليوم، وهو غدا خلف ظهورنا، فهو إذا غنيمة لم تستحل، وكنز لم يكشف بعد، وقد علمنا كيف نحوزه وننتفع به، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها.