إخوةَ الإيمان: التغيُّر والتغيير سُنةٌ كونيَّة، وإرادةٌ إلهيَّة، فطبيعة الحياة في تقلُّب وتبدُّل، وتغير وتلوُّن، تأمَّلْ في الكون، في طبيعته، ومناخه وأحواله، ترَ أنَّ الحال لا تدوم فيه على واحدة، وكذلك سُنَّة التغيُّر في بني الإنسان هي واقعٌ مشهود، وحالٌ منشود، فأنتَ أنت - يا عبدَ الله - لستَ أنت قبلَ خمس سنوات، وأنت اليوم لستَ أنت بعد سنين - إن طالتْ بك الأيَّام -، فالإنسان في دنياه متغيِّر من حالٍ إلى حال، متغيِّرٌ في صحته وقدراته، في تفكيره وعقلِه، في عملِه وعلمه وإيمانِه، وليس في هذا الكون توقف، الكلُّ يسعى؛ إما إلى الأحسن، وإمَّا إلى الأسوأ، وفي الحديث: ((كلُّ الناس يغدو، فبائعٌ نفسَه فمُعتِقها، أو موبِقها))1 يقول ابن رجب - رحمه الله -: "أن كل إنسان فهو ساعٍ في هلاك نفسه، أو في فِكاكها، فَمَن سعى في طاعة الله فقد باع نفسه لله، وأعتقها من عذابه، ومَن سعى في معصية فقد باع نفسه بالهوان، وأوبقَها بالآثام الموجبة لغضب الله وعقابه"2.
الكثير منا يبحث عن تطوير النفس، وتقدُّم الذات، وقد يُنفق المالَ والوقت؛ للحصول على دوراتٍ في التغيير، وتربية الذات، وفنِّ التعامل؛ وهذا شيءٌ حسنٌ يدلُّ على الوعي، ونُضْج العقل، ولكن هل سألْنا أنفسَنا عن أمر التغيُّر المتعلِّق بالتديُّن والاستقامة، هل استقامتنا هي هي استقامتنا قبلَ أشهر أو سنوات؟ هل تديننا وطاعتنا وقرباتنا في ازدياد، أم إلى نقصان؟ وهل علاقتنا مع ربِّنا في تقدُّمٍ، أمْ في تأخُّر، ماذا عن تعظيمنا لشعائر الله؟ وماذا عن وقوفنا عندَ حدود الله؟ أسئلة وأسئلة، يحملُ كلُّ واحد منَّا إجابتَه، وكلٌّ أدرَى بعيوب نفسه، وتقصيرها وتفريطها.
معاشرَ الأخوة والأخوات: إنَّ خطاب التغيير أوَّل ما يُوجَّه إلى ذلكم الرجل - وكلنا واللهِ هو ذاك الرجل - الذي أثقلتْه الآثام، وكبَّلتْه الغفلة، وأقعدتْه نفسُه الأمَّارة، فلا يزال للهوى متَّبِعاً، وللذته الطائشة طالباً، ذاك الرجل الذي ربَّما أدمن على المحرمات، وهَجَر الباقيات الصالحات، ربما تلصَّص على المحارم، وارتكب ما شاء مِن المآثم، ربَّما عاش بعيداً عن ربِّه، متعرِّضاً لسخطه، مُيمِّماً وجهَه نحوَ الهوى والشيطان.
ومع ذلك كلِّه، مع ذلك كله، فذاك الرجلُ يتمنَّى ويتمنَّى، يتمنَّى ماذا؟
يتمنَّى أن يُغيِّر حالةَ الشقاء التي يعيشها، وشؤم المعصية التي جثمتْ على حياته، كم فكَّر وقدَّر أن يُغيِّر وضعَه ويتغيَّر، فيلحقُ بركْب الطائعين، ويُذلِّل وجهَه لله مع القانتين الساجدين، كم تمنَّى أن ينامَ قريرَ الجَفْن، قد أدَّى حقَّ الله - تعالى - عليه، وكم تاقتْ نفسُه أن يكون حاملاً للقرآن، تالياً له آناءَ الليل، وأطرافَ النهار!.
كم تمنَّى أن يُحافظ على فرائضِ المكتوبات، وأن يستكثرَ من نوافل العبادات، ويعيشَ الحياة الطيِّبة المرغوبة؟.
إنَّها أمنياتٌ وأمنيات تدلُّ على أنَّ في النفوس بقايا من الخير، وخبايا من الإيمان، ولكن هل فكَّر ذاك الرجل بجِدٍّ، وقرَّر بحزم أن يعيشَ هذه الأمنياتِ واقعاً ملموساً، وشاهداً محسوساً؟ إنَّها - وربي - سهلةٌ ويسيرة على من يسَّرها الله عليه، نَعمْ نستطيع أن نتغيَّر.
فالطائع يزداد طاعةً وإيماناً، والعاصي يكفُّ عن خطيئاته، ويهجُرُ ماضيَه.
نعمْ نستطيع أن نتغيَّر، ونتأقلَم بعد ذلك على الطاعة والسُّنَّة، نستطيع أن نتغيَّر إلى الأحسن، ونتطوَّر إلى الأفضل، في سلوكنا ومعاملاتنا، وأخلاقنا وطاعاتنا.
فيا مَن منَّى نفسَه، وانتظرَ تغييرَ حالِه، وتحسينَ وتصحيحَ مسارِه؛ ها هي نسائمُ الخيرات قد أقبلتْ، وها هي مواسم المغفرة قد لاحتْ.
أقبلَ رمضان؛ شهرُ الرحمة والتكفير، والتقوى والتغيير.
جاء رمضانُ يَحمِل إلينا رسالةَ التغيير.
في هذا الشَّهْر المنتظَر المرتقَب، مواعيدُنا، أعمالُنا، موائدُنا، أوقاتُنا؛ كلُّها تتغيَّر، فلنتغيرْ إذن في إصلاح أنفسنا، واستقامة أقوالنا وأفعالن3
رَمَضَانُ أَقْبَلَ قُمْ بِنَا يَا صَاحِ هَذَا أَوَانُ تَبَتُّلٍ وَصَـلاَحِ
وَاغْنَمْ ثَوَابَ صِيَامِهِ وَقِيَـامِهِ تَسْعَدْ بِخَيْرٍ دَائِمٍ وَفَلاَحِ4
إخوة الإيمان: مَن لم يتغيَّر في رمضان متى يتغيَّر؟! مَن لم يتبْ في مَوْسم الغفران متى يتوب؟! ومَن لم يُقبِل على ربِّه في شهر الرحمات متى يُقبل؟! ومن لم يُغفر له في رمضان فمتى يُغفر له؟
جاء في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صعد المنبر، فقال: ((آمين، آمين، آمين))، فقال الصحابة: يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت: آمين، آمين، آمين!!، فقال: ((إن جبريل - عليه السلام - أتاني، فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار؛ فأبعده الله، قل: آمين، قلت: آمين))5، وقال سعيد عن قتادة: كان يقال "من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له في ما سواه"6.
متى يصلح من لا يصلح في رمضان؟ ومتى يفوز وينجح من لم يفز ويربح في رمضان؟!
من فاته العمل والجد في رمضان فمتى سيجد ويعمل؟! من فاته الزرع في رمضان فماذا سيحصد؟!
من فاته الزرع في وقت البذار فما تـراه يحصد إلا الـهـم والندما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعتـه في شـهره وبحبـل الله معتصم7
ماذا فات من فاته خير رمضان؟ وأي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان؟!
إن رمضان - أيها الكرام - فرصة للمذنبين، فالشياطين مصفد، وشهوات النفس مقيدة، والنفحات ممنوحة، وأبواب الجنة مفتوحة، فهو موسم للتجارة مع الله؛ وفرصة سانحة للتعرض لنفحات الله؛ وفي الحديث عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده))8 يقول ابن رجب - رحمه الله -: "وما في هذه المواسم الفاضلة موسمٌ إلا ولله - تعالى - فيه وظيفة من وظائف طاعته، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يعود بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرَّب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار، وما فيها من اللفحات"9.
هذا الموسم فرصةٌ للتغيير لِمَن أطْلَق بصرَه، وأرخى لِسانَه في الحرام، وفرصةٌ للتغيير لِمَن طاش ميزانُ الصلاة في حياته، فضيَّع أجرَه، ونام عن فجْرِه، رمضانُ فرصةٌ للتغيير نحوَ البذْل والعطاء ((ومَن فطَّر صائماً فله مِثْلُ أجرِه))10، وهو فرصةٌ أيضاً للقضاء على سيِّئِ الأخلاق، وغرْس القِيَم والمكارم: ((وإذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يرفثْ، ولا يصخَبْ، فإنْ سابَّه أحدٌ فليقلْ: إنِّي صائم))11.
ورمضانُ أيضاً فرصةٌ للتغيير لِمَن كان باردَ الشعور تُجاهَ جَسدِ أمَّته الواحد، فتمرُّ به وهو صائمٌ لحظةُ قَرْقرةِ بَطْنِه، وساعةُ جُوع كَبْدِه، فيستشعرُ حِينَها بؤسَ البائسين، وحاجة المحتاجين.
فيا أخي المقصِّر - وكلُّنا واللهِ مقصِّر - هذا شهرُ التغيير قد دَنَا، فأرِ الله من نفسك خيراً، هذا أوانُ التغيير بين يديك، وهذه نفحاتُ ربِّك قد أقبلتْ عليك، فالبِدارَ البِدار، اتِّخذِ القرار، وتُبْ إلى الملك الجبَّار، جدِّد حياتَك مع شهر القرآن، وافتحْ صفحةً جديدة في عُمرك مع شَهْر الغفران.
فَتُبْ مِمَّا جَنَيْتَ وَأَنْـتَ حَيٌّ وَكُــنْ مُتَيَقِّظاً قَبْلَ الرُّقَادِ
سَتَنْـدَمُ إِنْ رَحَلْتَ بِغَيْرِ زَادٍ وَتَشْقَى إِذْ يُنَادِيكَ الْمُنَادِي
أَتَرْضـَى أَنْ تَكُونَ رَفِيقَ قَوْمٍ لَهُـمْ زَادٌ وَأَنْتَ بِغَيْرِ زَادِ12
نسأل الله أن يتوب علينا جميعاً، وأن يغير أحوالنا من ضعف إلى قوة، ومن فقر إلى غنى، ومن مرض إلى صحة وعافية، ومن معصية إلى طاعة، ومن بدعة إلى سنة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
........................................................................................................
1 رواه مسلم (328).
2 جامع العلوم والحكم (220).
3 بتصرف من مقال بعنوان: "دعوة للتغيير قبل رمضان" للشيخ إبراهيم بن صالح العجلان نقلاً عن موقع: "الألوكة".
4 موسوعة الخطب الرمضانية (2/210).
5 رواه ابن الطبراني في الأوسط (8131) وابن حبان (907)، وقال الألباني: "صحيح لغيره" كما في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2491)، وقال شعيب الأرناؤوط: "إسناده حسن" كما في تحقيقه لصحيح ابن حبان (3/188).
6 لطائف المعارف (ص232).
7 وظائف شهر رمضان (ص54).
8 رواه الطبراني في الكبير رقم (724)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1890).
9 لطائف المعارف (ص
.
10 رواه الترمذي (735) وابن ماجه (1736)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب رقم (1078).
11 رواه البخاري،(1761)، ومسلم (1941).
12 موسوعة الشعر الإسلامي (143).