من المفاهيم المغلوطة، والأفكار المعكوسة؛ ما يفهمه كثير من الناس اليوم أن شهر رمضان شهر للتمتع بالمأكولات والملذات، أو أنه شهر لحبس النفس ومنعها عن الطعام والشراب فقط، أو أنه شهر للدعة والكسل والنوم بالنهار مع السهر في الليل على القيل والقال، ومشاهدات القنوات الفضائية، وفعل ما يغضب الرحمن، أو أنه شهر لجمع الدراهم والدنانير، وهذا ما نلمسه من كثرة الباعة والعمال خلال شهر رمضان، فنراهم قد امتلأت بهم الأسواق والشوارع والأرصفة دون عناية بالغة بقراءة القرآن أو طاعة الله.
وهؤلاء في الحقيقة لم يفهموا المقصود الحقيقي للصيام الذي هو التعبد لله - عز وجل - بمنع وكف النفس عن شهوات الطعام والشراب، وسائر المفطرات يقول ابن القيم - رحمه الله - وهو يتحدث عن ذلك: "لما كان المقصودُ مِن الصيام حبسَ النفسِ عن الشهواتِ، وفِطامَها عن المألوفات، وتعديلَ قوتها الشهوانية؛ لتستعِدَّ لطلب ما فيه غايةُ سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتُها الأبدية، ويكسِر الجوع والظمأ مِن حِدَّتِها وسَوْرتِها، ويُذكِّرها بحال الأكبادِ الجائعةِ من المساكين، وتضيق مجارى الشيطانِ من العبد بتضييق مجارى الطعام والشراب، وتُحبس قُوى الأعضاء عن استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرُّها في معاشها ومعادها، ويُسكِّنُ كُلَّ عضوٍ منها وكُلَّ قوةٍ عن جماحه، وتُلجَمُ بلجامه، فهو لجامُ المتقين، وجُنَّةُ المحاربين، ورياضة الأبرار والمقرَّبين، وهو لربِّ العالمين مِن بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعلُ شيئاً، وإنما يتركُ شهوتَه وطعامَه وشرابَه من أجل معبوده، فهو تركُ محبوبات النفس وتلذُّذاتها إيثاراً لمحبة اللَّه ومرضاته، وهو سِرٌّ بين العبد وربه لا يَطَّلِعُ عليهِ سواه، والعبادُ قد يَطَّلِعُونَ منه على تركِ المفطرات الظاهرة، وأما كونُه تركَ طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجل معبوده فهو أمرٌ لا يَطَّلِعُ عليه بَشرٌ، وذلك حقيقةُ الصوم"1.
وعلى هذا فإن "للصيام آداباً كثيرة لا يتم إلا بها، ولا يكمل إلا بالقيام بها، فمما لابد للصائم مراعاته، والمحافظة عليه:
- أن يقوم الصائم بما أوجب الله عليه من العبادات القولية والفعلية ومن أهمها الصلاة المفروضة التي هي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين.
- ومن الآداب أن يجتنب الصائم جميع ما حرم الله ورسوله من الأقوال والأفعال، فيجتنب الكذب، وأعظمه وأشنعه: الكذب على الله ورسوله، ويجتنب الغيبة، والنميمة، والغش في جميع المعاملات من بيع وإجارة، وصناعة ورهن وغيرها، ويجتنب المعازف وهي آلات اللهو بجميع أنواعها"2.
وليحذر المسلم من نواقض الصوم ونواقصه، وليصنه عن قول الزور والعمل به فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه))3، قال جابر - رضي الله عنه - : "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء"4.
والناس في صيامهم الشرعي ينقسمون إلى قسمين كما يقول ابن الجوزي - رحمه الله -: "والصائمون على طبقتين: إحداهما: من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله - تعالى - يرجو عنده عوض ذلك في الجنة؛ فهذا قد تاجر مع الله، وعامله، والله - تعالى - يقول: {لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}5...
من يرد ملك الجنانِ فليــدع عنه التواني
وليقم في ظلمة الليـ ـل إلى نور القـرآن
وليصل صوماً بصوم إن هذا العيــش فاني
إنما العيش جوار اللَّـ ـه في دار الأمــان
الطبقة الثانية من الصائمين: من يصوم في الدنيا عما سوى الله، فيحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويُريد الآخرة فيترك زينة الحياة الدنيا، فهذا عبد فطره يوم لقاء ربه، وفرحه برؤيته
أهل الخصوص من الصَّوَّام صومُهُمُ صونُ اللسان عن البُهتان والكذب
والعارفون وأهلُ الأنس صومُهُـمُ صونُ القلوب عن الأغيار والحُجُب
من صام عن شهواته في الدنيا أدركها غداً في الجنة، ومن صام عمّا سوى الله فعيده يوم لقائه، من كان يرجو لقاء الله فإن آجل الله لآت
وقد صمت عن لذات دهريَ كلها ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي
صوموا اليوم عن شهوات الهوى لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء، لا يطولنَّ عليكم الأمل باستبطاء الأجل؛ فإن معظم نهار الصيام قد ذهب، وعيد اللقاء قد اقترب.
إن يوماً جامعاً شملي بهم ذاك عيدي ليس لي عيد سواه"6.
فيجب أيها المسلم أن تصوم جوارحك عن جميع المفطرات المعنوية كما صمت عن جميع المفطرات الحسية، وكما صامت بطنك عن الطعام والشراب والشهوة فلتصم عن الحرام فلا تدخل فيها أكلاً محرماً قد جمعته أو جمعت ثمنه من الربا والغش، أو السرقة والنصب، والاحتيال على أموال الناس، وكما صمت عن مباح فلتفطر على مباح، فإن من الناس من يصوم عن مباح ثم يفطر على الحرام، ولتأخذ هذه القصة العجيبة التي حصلت لأفضل رجل بعد الأنبياء مع خادمه فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته؛ فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه"7.
وعليك أيضاً أن يصوم قلبك عما حرم الله، وذلك بتفريغه من المواد الفاسدة من شريكة مهلكة، ومن وسَاوِسَ سِيئة، ونوايا خبيثة، وخطرات فاسدة، وأن يصوم قلبك عن أن يصيبه داء الكبر والعجب، والغل والحقد والحسد، وإساءة الظن، وغير ذلك من أمراض القلوب.
كما يجب عليك - أيها الصائم - أن يصوم لسانك عن الخلال الرديئة من الكذب والغيبة والنميمة، والبذاءة والسب والفحش والزور، والسخرية والاستهزاء وغيرها
احذر لسانك أيها الإنسـان لا يلدغنـك إنـه ثعبـان
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تخاف لقاءه الشجعان
والله إن المـوت زلة لفظـة فيها الهلاك وكلها خسـران
وأن تصوم عيناك عن النظر إلى النساء والمردان بشهوة قال الله - تعالى -: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}8، وكذا أن تصوم أذناك عن سماع الخنا والغناء، والفحش والبذاء، والوشاة والحاقدين.
اللهم اجعلنا ممن صام رمضان إيماناً واحتساباً، واجعلنا فيه من المقبولين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين9.
1 زاد المعاد (2/28).
2 مجالس شهر رمضان لابن عثيمين ص (45-52) بتصرف.
3 رواه البخاري (5597).
4 شعب الإيمان للبيهقي (3/317).
5 سورة الكهف (30).
6 لطائف المعارف (176- 179) بتصرف.
7 البخاري (3554).
8 سورة النور (30).