امتن الله على عباده بمواسم الخيرات التي تضاعف فيها الحسنات، وتُمحى السيئات، وتُرفع الدرجات، وتتوجه فيها نفوس المؤمنين إلى مولاها، فيفلح من يزكيها ويخيب من يدسيها.
ومن أعظم هذه المواسم المباركة شهر الصيام الذي فيه تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وتصفد الشياطين، وتضاعف الحسنات، وشهر كهذا لا بد أن تستغل أوقاته، وتستثمر أنفاسه، وتعمَر لياليه؛ لكن كيف يكون ذلك؟
من أعظم ما يعمر المسلم به أوقات هذا الشهر الكريم، وما تستغل به أوقاته؛ أمور نذكر منها:
1- صيام هذا الشهر الكريم: فالصيام راحة للنفس يستفرغ منها المواد الفاسدة، ويريح المعدة، ويصفي الدم، ويطلق عمل القلب، فتشرق به الروح، وتصفو به النفس، وتهذب به الأخلاق، وإذا صام الصائم ذلَّت نفسه، وانكسر قلبه، وخفت مطامعه، وذهبت شهواته؛ لذلك تكون دعوته مستجابة لقربه من الله - عز وجل -.
وفي الصيام سر عظيم هو امتثال عبودية الله - عز وجل -، والإذعان لأمره، والتسليم لشرعه، وترك شهوة الطعام والشراب والجماع لمرضاته، وفيه انتصار للمسلم على هواه، وتفوق للمؤمن على نفسه، فهو نصف الصبر، ومن لم يستطع الصيام بلا عذر فلن يقهر نفسه، ولن يغلب هواه.
2- قراءة القرآن الكريم: وتدبر معانيه، والتفكر في أحكامه، فإن القرآن الكريم يحب رمضان، ورمضان يحب القرآن الكريم، وهما كالصديقين الحميمين قال - تعالى -: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}1، فينبغي أن يكثر المسلم من قراءته فيه، وقد كان السلف الصالح يعتنون بكتاب الله في هذا الشهر عناية عجيبة، فكان جبريل - عليه السلام - يدارس النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن في رمضان، وكان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يختم القرآن كل يوم مرة، وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث ليال، وبعضهم في كل سبع، وبعضهم في كل عشر، وكان الأسود يقرأ القرآن كل ليلتين في رمضان.
سمعتك يا قرآن والليل غــافل سريت تهز القلب سبحان من أسرى
فتحنا بك الدنيا فأشرق صبحها وطفنا ربوع الكون نملـؤها أجـراً
قال ابن رجب: "إنما ورد النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك، فأما في الأوقات المفضلة كشهر رمضان خصوصاً الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة كمكة لمن دخلها من غير أهلها؛ فيستحب الإكثار فيها من تلاوة القرآن اغتناماً لفضيلة الزمان والمكان"2.
3- قيام رمضان: فرمضان شهر الصيام والقيام، وأحلى الليالي، وأغلى الساعات؛ يوم يقوم الصوام في جنح الظلام
قلت لليل هل بجــوفك سر عامر بالحديث والأســـرار
قال لم ألق في حياتي حديثـاً كحديث الأحباب في الأسحار
جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))3، وقد كان قيام الليل دأب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كما قالت عائشة - رضي الله عنها -: "لا تدع قيام الليل، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعداً"4.
4- الصدقة: على المساكين والأرامل واليتامى، وتفطير الصائمين، وغير ذلك من وجوه الخير، وفضل الصدقة عظيم، وثوابها عند الله جزيل، وينبغي للصائم أن يحرص على الإكثار منها دائماً، وأن يضاعف إنفاقه في وجوه الخير؛ اقتداءً بنبي الهدى - صلى الله عليه وسلم - الذي كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((من فطَّر صائماً كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء))5.
5- العمرة في رمضان: فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((عمرة في رمضان تقضي حجة معي))6، فهنيئاً لك أخي زيارة تلك المشاعر المقدسة، وهنيئاً لك حجة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
6- الاعتكاف: فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأواخر من رمضان، حتى كان آخر رمضان صامه اعتكف عشرين يوماً من رمضان.
7- تحري ليلة القدر: ويستحب تحريها في رمضان، وفي العشر الأواخر منه خاصةً، وفي الأوتار منها بشكل أخص.
ويستغل شهر الصيام أيضاً بكثرة الدعاء، وحسن الخلق مع الناس، وصلة الأرحام، وغيرها من أعمال البر والخير التي تعرضك لعتق الله؛ إذ لله عتقاء من النار في كل ليلة من ليالي هذا الشهر، فيا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.
فاللهم وفقنا لاغتنام أوقات هذا الشهر الكريم، واجعلنا فيه من المقبولين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين7.
1 سورة البقرة (185).
2 لطائف المعارف لابن رجب (1/183).
3 رواه البخاري (37) ومسلم (759).
4 سنن أبي داود (1112)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1/243).
5 رواه الترمذي (807)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/260).
6 أخرجه البخاري (1730)، ومسلم (2201)، واللفظ للبخاري.
7 بتصرف من موقع إمام المسجد (http://www.alimam.ws/ref/669).