ما هي إلا أيام قلائل حتى تكتمل دورة الفلك، ويشرف على الدنيا هلال رمضان المبارك الذي تهفو إليه نفوس المؤمنين، وتتطلع شوقاً لبلوغه
فمرحباً أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيبـــاً زارنا في كل عام
قد لقينــاك بِحب مفعم كل حبُ في سوى المولى حرام
فاقبل اللهــم ربِي صومنا ثم زدنا من عطايــاك الجسام
مرحباً برمضان، جئت بعد عام كامل مات خلاله أقوام وولد آخرون، سعد أقوام وشقي آخرون، اهتدى أقوام وضل آخرون.
مرحباً برمضان موسم البضاعة الرابحة، والفرصة السانحة، والكفة الراجحة.
مرحباً برمضان شهر التوبة والرضوان، شهر الصلاح والإيمان، شهر الصدقة والإحسان، ومغفرة الرحمن، وتزين الجنان، وتصفيد الشيطان.
فيا معاشر الساجدين، والصفوة القانتين، والبر الميامين، بشراكم بشراكم فها قد أظلكم شهر كريم، وموسم للربح عظيم، فهنيئاً لنا ولكم يوم أفسح الله في آجالنا، وأمدَّ في أعمارنا حتى بلَّغنا أيام وليالي هذا الشهر المبارك.
أُخي:
إن رمضان فرصة لا يُفوِّتُها إلا متهاون مغبون، ولا يزهد فيها إلاّ جاهل محروم، أما من أنار الله قلبه، ونقّى فؤادَه؛ فتراه يستعد لرمضان قبل أن يلقاه، وتكتحل برؤيته عيناه، لكن يبقى السؤال الأهم ونحن على مشارف أبواب رمضان هو: بم ينبغي أن نستقبل شهر الفضائل والمكرمات؟
وللإجابة أطلب منك أن تدنو قليلاً، لا أقصد بجسدك؛ بل بقلبك؛ لنقرع فؤادك بهذه الهمسات التي تستعين بها في استقبال شهر رمضان:
- يفضل للإنسان أن يقدّمَ بين يدي رمضان صيام شعبان جلّه أو كلّه؛ تأسياً بنبيه - صلى الله عليه وسلم - الذي دأبَ على ذلك حتى قالت عائشة - رضي الله عنها -: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان"1.
- ينبغي أن تستقبل رمضان بالفرح والسرور، والحفاوة والتكرم, فهذا شهر اختاره الله لفريضة الصيام، ومشروعية القيام، وإنزال القرآن الكريم لهداية الناس، وإخراجهم من الظلمات إلى النور, تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وتغلُّ فيه الشياطين، وتضاعف فيه الحسنات، وترفع الدرجات، وتغفر الخطايا والسيئات.
- ينبغي أن تستقبَل رمضان بالمبادرة إلى التوبة من الذنوب صغيرها وكبيرها، والإكثار من الطاعات دِقِّها وجِلِّها، فهذا زمان التوبة.
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجبِ حتى عصى ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصـــوم بعدهما فلا تصيّـِره أيضاً شهر عصيان
واتل القرآن وسبح فيــه مجتهـداً فإنه شهـر تسبيــح وقرآن
- ينبغي أن تستقبله بالتّشمير عن سواعِدِ الجدّ في استباقِ الخيرات، وبِعقدِ العزمِ على اغتنامِ فرصته في تزكيةِ النفس وتهذيبها، وإِلزامها بسلوكِ الجادّة، وقطعِ الصّلَة بماضي الخطايَا، وسابقِ الآثام، وانتهاج السبيلِ الموصِل إلى رضوان الله - عز وجل -، والحظوَة عنده بالدرجات العُلى، والنعيمِ المقيم.
أحوال ملموسة:
من المشاهد أن الناس في استقبال هذا الشهر العظيم ينقسمون إلى أقسام:
قسم يفرحون بهذا الشهر، ويسرُّون لقدومه، ويسعدون لحلوله، ويستعدون له بكل ما يستعد به المضيف لمقابلة الضيف العزيز القادم بعد طول غياب، متلهفون لأن يعتق الرب - سبحانه - رقابهم من النار، ومتشوفون لنفحات الباري - جل جلاله - ليل نهار.
وقسم آخر: يستثقلون هذا الشهر، ويستعظمون مشقته، فإذا نزل بهم فهو كالضيف الثقيل، يعدُّون ساعاته ولياليه، منتظرين رحيله بفارغ الصبر، يفرحون بكل يوم يمضي منه، حتى إذا قرب العيد فرحوا بدنو خروج هذا الشهر، وسعدوا بقرب انتهائه؛ لأنهم اعتادوا التوسع في الملذات والشهوات من المآكل والمشارب والمناكح وغيرها، وعظم تقصيرهم في الطاعات، يعيشون الغفلة في رمضان وبعد رمضان، قومٌ إذا دخل عليهم رمضان أمضوا ساعاته في النوم، وقضوا ليله في السهر واللعب، واللهو والغفلة، والله المستعان.
فقل لي: من أي صنف أنت؟ ومع أي قوم تحب أن تكون؟ تأمل ثم اختار لأنفسك.
أيها الموفق:
ما فتئ رمضان يعود علينا عاماً بعد عام، ونحن نخرج منه كما نلقاه، وقليل منّا من يكون بَعدَه على أحسن ممّا كان عليه قَبْلَه، أفلَم يأنِ لنا أن نعزم على اغتنام موسم قد لا ندركه فيما نستقبل من أعوام، ونكفّ عن التسويف والتأجيل وضياع الأوقات في القال والقيل؟.
تيقَّن أن في استقبال شهر الصوم تجديد لطيف الذكريات، وعهود الطهر والصفاء، والعفة والنقاء، له في نفوس الصالحين بهجة، وفي قلوب المتعبدين فرحة، وحسبكم في فضائله أن أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.
كم في نفوسنا من شهوةٍ وهوى، وفي صدورنا دوافع غضبٍ وانتقام، وفي الحياة تقلب في السراء والضراء، وفي دروب العمر خطوب ومشاق، ولا يُدَافع ذلك كله إلا بالصبر والمصابرة، ولا يُتَحمّل العناء إلاّ بصدق المنهج وحسن المراقبة، وما الصوم إلا ترويض للغرائز، وضبط للنوازع.
فجديرٌ بشهرٍ هذه بعض أسراره، وتلك بعض خصاله؛ أن يفرح به المتعبدون، ويتنافس في خيراته المتنافسون، فما أكرمَ اللهُ أمة بمثل ما أكرم به أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فاصرخ في وجه الكون، وقل: يا غيوم الغفلة عن القلوب تَقَشَّعي، ويا شموس التقوى والإيمان اطلعي، ويا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، يا أرض الهوى لماءك ابلعي، ويا سماء النفوس أقلعي.
يا هذا : ليت شعري ما بالك تدعى إلى الفلاح وأنت تحرص أن تكون خاسراً، وتدعى إلى الصلاح وأنت على الفساد مثابراً، ألا تدري أن ثمة أيام ثم تمدُّ موائد الإنعام للصُّوام، فما منكم إلا وسيدعى، فـ{يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ}2، ويا همم المؤمنين أسرعي، فطوبى لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طرد عن الباب"3.
ويا رب نناديك ونناجيك:
إن الـملوك إذا شابت عبيدهم في رقـهم عتقــوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار
نسأل الله - تبارك وتعالى - بمنِّه وكرمه أن يبلغنا رمضان, وأن يتقبل منا الصيام والقيام, وأن يعتق رقابنا من النيران, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
................................................................................................
1 رواه البخاري برقم (1868)، ومسلم برقم (1156).
2 سورة الأحقاف (31).
3 لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي (225).