الحمد لله الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليلَ والنهارَ خِلْفَةً لمن أراد أن يذَّكر أو أراد شكوراً، وصلى الله على مَنْ بُعِثَ بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد:
فإن رمضانَ أيامٌ معدوداتٌ، وفرصٌ سانحاتٌ، وإن اغتنام هذه الأيام لدليلُ الحزم، وإنَّ انتهاز تلك الفرص لعنوانُ العقل؛ذلكم أن الوقت رأسُ مالِ الإنسان، وساعاتِ العمرِ هي أنفسُ ما عني الإنسان بحفظه؛ فكل ساعة من ساعاتِ عُمُرِكَ قابلةٌ لأن تضعَ فيها حجراً يزداد بها صرحُ مجدِك ارتفاعاً، ويقطع بها قومك في السعادة باعاً أو ذراعاً.
فإن كنت حريصاً على أن يكون لك المجدُ الأسمى،ولقومك السعادةُ العظمى، وأن تفوز بخيري الآخرة والأولى _فَدعِ الراحةَ جانباً، واجعل بينك وبين اللهو حاجباً؛ فالحكيمُ الخبيرُ يَقْدُرُ الوقتَ حقَّ قدره، ولا يتخذه وعاءً لأبخس الأشياء، وأسخف الكلام، ويعلم أنه من أجلِّ ما يصان عن الإضاعة والإهمال، وَيقْصُره على المساعي الحميدة التي ترضي الله، وتنفع الناس.
ولعظم شأن الوقت أقسم به اللهُ في غير ما آية من كتابه العزيز قال_عز وجل_ : ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) (الليل: 1- 2) وقال: ( وَالضُّحَى ، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) (الضحى:1- 2) وقال: ( وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (العصر:1- 2)
ولئن كان حفظُ الوقتِ مطلوباً في كل حين وآن، فلهو أولى وأحرى بالحفظ في الأزمنة المباركة.
ولئن كان التفريطُ فيه وإضاعتُه قبحاً في كل زمان، فإن قبح ذلك يشتد في المواسم الفاضلة.
ومن الناس مَنْ قَلَّ نصيبه من التوفيق، فلا تراه يلقي بالاً لحكمة الصوم، ولا لفضل الشهر، فتراه يجعل من رمضان فرصةً للسهر واللهو الممتد إلى بزوغ الفجر، والنومِ العميق في النهار حتى غروب الشمس.
ولا يخفى على عاقل لبيب ما لهذا الصنيع من أضرار على دين الإنسان ودنياه، فهو قلب للفطرة، فالله _عز وجل_ جعل الليل لباساً، والنهار معاشاً، كما أنه إضاعة للوقت، وتعطيل للمصالح.
ومن كان هذا صنيعَه فلن يرجى منه خيرٌ في الغالب لا لنفسه ولا لغيره.
ثم إن السهرَ سببٌ لإضاعة حقوق الأهل والوالدين؛ فالذي يسهر الليل في مشاهدة الحرام،ويعكف أمام ما تبثه الفضائيات من شرور سيضيِّع أولاده وزوجته إن كانوا يشاهدونها معه، وإن كان يسهر خارجَ المنزل كان ذلك سبباً في بعده عن بيته، وغفلته عما استرعاه الله إياه، وإن كان شاباً في مقتبل عمره أقلق والديه بطول سهره، وبعده عن المنزل.
ثم إن الذي يسهرُ ليله وينام نهارَه سيضيع صلة أرحامه؛ إذ لا وقت لديه لِصِلتهم، وهكذا تنفصم عرى الأمة، وتنفك روابطها.
كما أن السهر أمام تلك الفضائيات له آثارُه السلوكيةُ المدمرةُ، ومنها الصد عن سبيل الله، وإضعاف أثر الدين في النفوس، وذلك من خلال ما تبثه من مشاهد فاضحة، وما تطرحه من شبهات كثيرة تطعن في الدين، وتُلْقى على عقول خواء، وأفئدة هواء.
ومن آثارها: التمرد على القيم النبيلة، والأخلاق الفاضلة، والآداب المرعية.
ومنها: شيوع العادات السيئة كالاستهانة بمحارم الله، والاستخفاف بشعائر الدين.
ومنها: الإعجابُ بالكفار وتقليدهم في مستهجن عاداتهم من نحو الملبس، والهيئة، وقصات الشعر، وما إلى ذلك.
ومنها: انتشار الجريمة، وشيوع المظاهر المخلة بالأمن كالقتل، والسرقة، وتعاطي المخدرات ونحو ذلك.
ومنها: الزهد بالفضيلة والعفاف، وذلك من خلال الافتتان بالمذيعات والممثلات والمغنيات؛ فقد يفضي ذلك الصنيعُ إلى الزهد بالزوجات؛ لأن بعض مشاهدي تلك القنوات - لفرط جهله - يعقد مقارنة ظالمةً بين زوجته وبين ما يشاهده من تلك النسوة اللاتي نزعن الحياءَ، ووضعْنَ من الأصباغ ومواد التجميل ما يغري بهن.
وهذه مقارنةٌ ظالمةٌ لم تُبْنَ على أسس سليمة؛ إذ تغافل ذلك المُقارِنُ عن عفاف زوجته، وسترها، وحيائها.
بل ربما تكون أجملَ مما يشاهد، ولكن الشيطان يقبحها في عينه، ويزين ما يشاهده في نفسه.
أيها الصائمون: ومن آثار السهر أن له آثاراً على نَفْس الإنسان وخُلُقِه؛ إذ يصبح ونفسه كزَّةٌّ، وخلقُهَ سيئٌ؛ وذلك لما للسهر من تأثير على الأعصاب؛ فينتج من جَرَّاء ذلك انقباضُ النفس، وقلة احتمالها.
ولو لم يأت من آثار السهر إلا أنه سبب لترك صلاة الفجر لكفى.
أما النوم الكثير _ خصوصاً بالنهار_فلا يخفى ضرره؛ فذلك مضيعة للوقت، وحرمانٌ للبركة؛ فالنومُ يعطل قوةَ العقل، ويُلْحِقُ الإنسان بالخشب المسندة.
وبما أن أمرَه غالبُ ماله من مَرَد فإن أولي الحكمةِ لا يخضعون لسلطانه إلا حيثُ يَغْلِبَ على أمرهم، ولا يعطونه من الوقت إلا أقلَّ ما تفرضُه عليهم الطبيعةُ البشرية، ويبتغون بذلك أن تبقى عقولهم في حركات تثمر علماً نافعاً، أو عملا صالحاً.
فحقيق على هؤلاء المُفرِّطين المضيعين أوقاتَهم أن يتنبهوا لأسرار الصيام، وأن يغتنموا مدرستَه العظيمة؛ ليجنوا ثمارَه الصحيحةَ، ويستمدوا منه قوةَ الروح؛ فيكونَ نهارُهم نشاطاً وإنتاجاً وإتقاناً، وتعاوناً على البر والتقوى.
ويكونَ ليلُهم تهجداً، وتلاوةً لكتاب ربهم، ومحاسبةً لأنفسهم على ضوئه؛ ليخرجوا من مدرسة الصيام مفلحين فائزين.
اللهم أيقظنا من رقدات الغفلات، وأعنا على اغتنام الأوقات في الباقيات الصالحات، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.