الصبر حيلة المحتال
-عندما تحجب غيوم الصيف المتناثرة الشمس عن حياتنا، أو عندما يدلهم الليل وتطول ساعاته وتخنق الظلمة القمر ... فليس لنا إلا الصبر سلاحا ووشاحا. فالأيام دول بين الناس تسير وفق نواميس الكون التي وضعها الخالق جل شأنه. ولا شك في أن حياة أي إنسان ملونة كالطيف أيامها .. ففيها شموس السعد الساطعة وغيوم الحزن الكئيبة، وهذه الحياة هي اختبار للبشر ومحك للنفس الإنسانية، وهذا شاعرنا الفيلسوف أمية بن أبي الصلت قد أدرك ذلك من خلال هذه الأبيات التي ينصح فيها الإنسان العاقل إذا ما طالته يد النوائب وعكرت صفو أيامه أن يرتدي الصبر وشاحا، وأن يتحصن به ليصد الرياح العتية التي سوف تقهر وتستسلم أمام حصونه المنيعة. والعاقل هو الذي يحتال على الملمات بالصبر حتى يجعل الله له مخرجا.
والأحداث التاريخية وقصص الأنبياء الكرام التي استشهد بها الشاعر في أبياته هي خير دليل على ثمرة الصبر وعاقبته الكريمة، حيث سمع الله وأجاب دعاء نوح حينما ركب البحر وتأهت به الأمواج وكيف ساقته الحمامة إلى اليابسة وبر الأمان، وكذلك خليل الله إبراهيم عليه السلام حينما أراد أن يوفي نذره ويصدق رؤياه فساق إسماعيل إلى حتفه مختارا، وكيف صبرا حتى تجاوزا الامتحان حتى فدى الله إسماعيل بذبح عظيم، وجعل الله لهما المخرج من الكرب ومن أصعب امتحان يتعرض له إنسان. وكذلك لنا في قصص داوود وموسى ويوسف ولعل الغريب في هذه الأبيات الجميلة أنها جاءت على لسان شاعر جاهلي لم يدرك الإسلام وهو أمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي وهو حكيم من أهل الطائف .. قدم إلى دمشق قبل الإسلام وكان مطلعا على الكتب القديمة وهو من الذين نبذوا عبادة الأصنام. كانت وفاته عام 626م .
والقصيدة من البحر المنسرح:
اصبر النفـس عنـد كل ملــم
إن فـي الصـبر حيلة المحتــال
لا تضيقـن بالأمــور فقــد
يكشـف غماؤها بغير احتيــال
ربمــا تجزع النفوس مـــن
الأمـر له فرجـة كحل الحقـال
سمـع الله لا بـن آدم نــوح
ربنـا ذو الجــلال والإفضـال
حـين أوفـى بــذي الحمامة
والناس جميعـا في فلكه كالعيـال
فهـي تجــري فيه وتجتســر
البحر بأقلاعهـا كقـدح المغالـي
حابسـا جوفـه عليـه رسـولا
من خفـاف الحمــام كالتمثال
فرشاها على الرسـالة طوقــا
وخضابــا علامة غيـر بالــي
فأتته بالصـدق لمــا رشـاها
وبقطـف لمـا غـدا عثكــال
تصـرخ الطيـر والبرية فيهــا
مــع قـوي السباع والأفيــال
حين فيهـا من كل ما عــاش
زوج بين ظهـري غوارب كالجبال
ولإبراهيم الموفــي بنـــذر
احتسابـا وحامــل الأجــزال
بكـره لم يكن ليصبـر عنــه
لـو رآه فـي معشـر اقتـــال
أبني إني نــذرتك لله شحيطـا
فأصــبر فـدى لــك حالـي
أجاب الغــلام أن قـال فيـه
كل شــي لله غيــر انتحـال
أبتي إنني جزيتــك بالله تقيـا
بـه علـى كـــل حـــال
فأقض ما قد نذرت لله واكفـف
عن دمـي أن يمسـه سـربالـي
واشدد الصفـد لا أحيـد عـن
السـكين حيد الأسـير ذي الأغلال
إننـي آلـم المحــز وإنــي
لا أمس الأذقــان ذات السبـال
وله مدية تخايـل فـي اللحــم
حــذام حنيــة كالهـــلال
جعل الله جيـده مـن نحــاس
إذ رآه زولا مــــن الأزوال
قــال خـذه وأرســل ابنك
إني للـذي قد فعلتما غير قال
والـد يتقي وآخــر مولــود
فطـارا منـه يسمع فعال
حي داود وابــن عـاد وموسى
وفريــع بنيانــه بالثقـال
إنني زارد الحديد علــى الناس
دروعا ســوابغ الأذيــال
لا أرى من يعينني فــي حياتـي
غــير نفسي إلا بني اسـرال
أيمـا شاطـن عصـاه عكــاه
ثم يلقــى في السجن والأغلال
ولـه الدين واصبـا ولـه المـلك
وحمـد لـه علـى كل حـال
ـــــــــــــ أمية بن أبي الصلت ـــــــــــ