اتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله
الحمد لله الذي كتب الإيمان في قلوب المؤمنين حتى شاهدوا بعين البصيرة ونور العلم ما كان غائباً عن العيون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحي الكامل في حياته، العليم الكامل في علمه، القدير الكامل في قدرته، فإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين، وخاتم النبيين وسيد الموقنين، آمن فأيقن، وعمل فأتقن، واستمر على ذلك حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
نقف مع آية كريمة من كتاب الله وهي قوله - سبحانه وتعالى -: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (281) سورة البقرة.
آخر ما نزل من القرآن:
اختلف العلماء في تعيين آخر ما نزل من القرآن على الإطلاق، واستند كل منهم إلى آثار ليس فيها حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان هذا من دواعي الاشتباه وكثرة الخلاف على أقوال شتى، وهذه الأقوال هي:
القول الأول: أن آخر ما نزل من القرآن قول الله - تعالى- في سورة البقرة: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (281) سورة البقرة. أخرجه النسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وكذلك أخرج ابن أبي حاتم قال: آخر ما نزل من القرآن كله {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} الآية، وعاش النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزولها تسع ليال ثم مات لليلتين خلتا من ربيع الأول.
القول الثاني: أن آخر ما نزل هو قول الله تعالى - في سورة البقرة أيضاً - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (278) سورة البقرة، أخرجه البخاري عن ابن عباس1- رضي الله عنهما -.
القول الثالث: أن آخر ما نزل آية الدَّيْن - في سورة البقرة أيضاً - فقد أخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن عهداً بالعرش آية الدَّيْن، أخرج أبو عبيد في الفضائل عن ابن شهاب قال: آخر القرآن عهداً بالعرش آية الربا، وآية الدَّيْن.
ويمكن الجمع بين هذه الأقوال الثلاثة بما قاله السيوطي - رضي الله عنه - من أن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف لأنها في قصة واحدة، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر، وذلك صحيح.
قال الزرقاني: ولكن النفس تستريح إلى أن آخر هذه الثلاثة نزولاً هو قول الله - تعالى-: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (281) سورة البقرة، وذلك لأمرين: أحدهما: ما تحمله هذه الآية في طياتها من الإشارة إلى ختام الوحي والدِّيْن، ثانيهما: التنصيص في رواية ابن أبي حاتم السابقة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاش بعد نزولها تسع ليال فقط، ولم تظفر الآيات الأخرى بنص مثله.2
القول الرابع: أن آخر القرآن نزولاً قول الله - تعالى- في سورة آل عمران: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} (195) سورة آل عمران، ودليل هذا القول ما أخرجه ابن مردويه من طريق مجاهد عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت: آخر آية نزلت هذه الآية (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عمل منكم) إلى آخرها.
وذلك أنها قالت: يا رسول الله أرى الله يذكر الرجال ولا يذكر النساء فنزلت ((ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض)) سورة النساء 32 ونزل ((إن المسلمين والمسلمات)) الأحزاب 35، ونزلت هذه الآية فهي آخر الثلاثة نزولاً، وآخر ما نزل بعد ما كان ينزل في الرجال خاصة.
القول الخامس: أنها آية {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (93) سورة النساء، واستدلوا بما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: هذه الآية (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم) هي آخر ما نزل، وما نسخها شيء.
القول السادس: أن آخر آية نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} (176) سورة النساء، وهي خاتمة سورة النساء، وأن آخر سورة نزلت سورة براءة.
واستند صاحب هذا الرأي إلى ما يرويه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه قال: آخر آية نزلت (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة)، وآخر سورة نزلت براءة.
القول السابع: أن آخر ما نزل سورة المائدة، واحتج صاحب هذا القول برواية للترمذي والحاكم في ذلك عن عائشة - رضي الله عنها -.
القول الثامن: أن آخر ما نزل هو خاتمة سورة براءة: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} (128) سورة التوبة، إلى آخر السورة، رواه الحاكم وابن مردويه عن أبي بن كعب.
القول التاسع: أن آخر ما نزل هو آخر سورة الكهف {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (110) سورة الكهف، أخرجه ابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -، قال ابن كثير هذا أثر مشكل، ولعله أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها، ولا تغير حكمها بل هي مثبتة محكمة، ا هـ.
القول العاشر: أن آخر ما نزل هو سورة (إذا جاء نصر الله والفتح) رواه مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.
قال الزرقاني بعدما ذكر الأقوال السابقة والرد عليها: "تلك أقوال عشرة عرفتها وعرفت توجيهها، ورأيت أن الذي تستريح إليه النفس منها هو أن آخر القرآن نزولاً على الإطلاق قول الله في سورة البقرة: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}، وأن ما سواها أواخر إضافية، أو مقيدة بما علمت".3
تفسير الآية:
قال الشيخ السعدي: "وهذه الآية من آخر ما نزل من القرآن، وجعلت خاتمة لهذه الأحكام والأوامر والنواهي أي: أحكام المعاملات من التجارة والرب لأن فيها الوعد على الخير، والوعيد على فعل الشر، وأن من علم أنه راجع إلى الله فمجازيه على الصغير والكبير، والجلي والخفي، وأن الله لا يظلمه مثقال ذرة؛ أوجب له الرغبة والرهبة، وبدون حلول العلم في ذلك في القلب لا سبيل إلى ذلك"4.
قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا} أي احذروا عذاب يوم؛ والمراد به يوم القيامة؛ لقوله - تعالى-: {تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ}؛ وعلى هذا تكون {يَوْمًا} منصوبة على المفعولية؛ لأن الفعل وقع عليها لا فيها.
قوله تعالى: {تُرْجَعُونَ} صفة لـ{يَوْمًا}؛ لأنه نكرة؛ والجمل بعد النكرات صفات؛ وهي بضم التاء، وفتح الجيم على أنه مبني لما لم يسم فاعله؛ وفي قراءة بفتح التاء، وكسر الجيم على أنه مبني للفاعل.
قوله تعالى: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ} أي تعطى؛ والتوفية بمعنى الاستيفاء؛ وهو أخذ الحق ممن هو عليه؛ فـ{تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ} أي تعطى ثوابها وأجرها المكتوب لها إن كان عملها صالحاً؛ أو تعطى العقاب على عملها إن كان عملها سيئاً.
قوله - تعالى-: {مَّا كَسَبَتْ} أي ما حصلت عليه من ثواب الحسنات، وعقوبة السيئات.
قوله - تعالى-: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} جملة استئنافية؛ ويحتمل أن تكون جملة حالية؛ لكن الأول أظهر؛ والمعنى: لا ينقصون شيئاً من ثواب الحسنات، ولا يزاد عليهم شيئاً من عقوبة السيئات5.
واليوم الذي يرجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت يوم عسير، له في القلب المؤمن وقع؛ ومشهده حاضر في ضمير المؤمن، وله في ضمير المؤمن هول.
والوقوف بين يدي الله في هذا اليوم خاطر يزلزل الكيان! وهو تعقيب يتناسق مع جو المعاملات، جو الأخذ والعطاء، جو الكسب والجزاء، إنه التصفية الكبرى للماضي جميعه بكل ما فيه، والقضاء الأخير في الماضي بين كل من فيه، فما أجدر القلب المؤمن أن يخشاه وأن يتوقاه.
إن التقوى هي الحارس القابع في أعماق الضمير؛ يقيمه الإسلام هناك لا يملك القلب فراراً منه؛ لأنه في الأعماق هناك!
إنه الإسلام، النظام القوي، الحلم الندي الممثل في واقع أرضي، رحمة الله بالبشر، وتكريم الله للإنسان، والخير الذي تشرد عنه البشرية؛ ويصدها عنه أعداء الله وأعداء الإنسان6!
الفوائد:
1 - من فوائد الآية: وجوب اتقاء هذا اليوم الذي هو يوم القيامة؛ لقوله - تعالى-: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ}، واتقاؤه يكون بفعل أوامر الله، واجتناب نواهيه.
2 - ومنها: أن التقوى قد تضاف لغير الله، لكن إذا لم تكن على وجه العبادة؛ فيقال: اتق فلاناً، أو: اتق كذا؛ وهذا في القرآن والسنة كثير؛ قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (131) سورة آل عمران، لكن فرق بين التقويين؛ التقوى الأولى تقوى عبادة، وتذلل، وخضوع؛ والثانية تقوى وقاية فقط: يأخذ ما يتقي به عذاب هذا اليوم، أو عذاب النار؛ وفي السنة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ)7.
فأضاف التقوى هنا إلى دعوة المظلوم؛ واشتهر بين الناس: اتق شر من أحسنت إليه؛ لكن هذه التقوى المضافة إلى المخلوق ليست تقوى العبادة الخاصة بالله - عز وجل - بل هي بمعنى الحذر.
3 - ومن فوائد الآية: إثبات البعث؛ لقوله - تعالى-: {تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ}.
4 - ومنها: أن مرجع الخلائق كلها إلى الله حكماً، وتقديراً، وجزاءً؛ فالمرجع كله إلى الله - سبحانه وتعالى - كما قال - تعالى-: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} (42) سورة النجم، وقال تعالى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} (
سورة العلق، أي في كل شيء.
5 - ومنها: إثبات قدرة الله - عز وجل - وذلك بالبعث؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - يبعث الخلائق بعد أن كانوا رميماً وتراباً.
6 - ومنها: الرد على الجبرية؛ لقوله - تعالى-: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا} (281) سورة البقرة؛ لأن توجيه الأمر إلى العبد إذا كان مجبراً من تكليف ما لا يطاق.
7 - ومنها: أن الإنسان لا يوفى يوم القيامة إلا عمله؛ لقوله - تعالى-: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} (281) سورة البقرة، واستدل بعض العلماء على أنه لا يجوز إهداء القرب من الإنسان إلى غيره؛ أي أنك لو عملت عملاً صالحاً لشخص معين فإن ذلك لا ينفعه، ولا يستفيد منه؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - قال: {تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ}؛ لا ما كسب غيرها؛ فما كسبه غيره فهو له، واستثني من ذلك ما دلت السنة على الانتفاع به من الغير كالصوم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ)8، والحج؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمرأة التي استفتته أن تحج عن أبيها وكان شيخاً كبيراً لا يثبت على الراحلة قالت: أفأحج عنه قال: (نَعَمْ)9، وكذلك المرأة التي استفتته أن تحج عن أمها التي نذرت أن تحج، ولم تحج حتى ماتت قالت: أفأحج عنها؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: (حُجِّي عَنْهَا)10، وكذلك الصدقة؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن استفتاه أن يتصدق عن أمه: (نَعَمْ)11، وأذن لسعد بن عبادة أن يتصدق بمخرافه عن أمه12.
وأما الدعاء للغير إذا كان المدعو له مسلماً فإنه ينتفع به بالنص، والإجماع؛ أما النص ففي الكتاب، والسنة؛ أما الكتاب ففي قوله - تعالى-: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} (10) سورة الحشر.
وأما السنة ففي قوله - صلى الله عليه وسلم -: (مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا شَفَّعَهُمْ اللَّهُ فِيهِ)13.
وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، وقال: (اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ؛ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ)14.
وأما الإجماع: فإن المسلمين كلهم يصلون على الأموات، ويقولون في الصلاة: "اللهم اغفر له وارحمه"؛ فهم مجمعون على أنه ينتفع بذلك.
والخلاف في انتفاع الميت بالعمل الصالح من غيره فيما عدا ما جاءت به السنة معروف؛ وقد ذهب الإمام أحمد - رحمه الله - إلى أن أيّ قربة فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم قريب أو بعيد نفعه ذلك؛ ومع هذا فالدعاء للميت أفضل من إهداء القرب إليه؛ لأنه الذي أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ)15، ولم يذكر العمل مع أن الحديث في سياق العمل.
وأما ما استدل به المانعون من إهداء القرب من مثل قوله - تعالى-: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (39) سورة النجم، فإنه لا يدل على المنع؛ بل على أن سعي الإنسان ثابت له؛ وليس له من سعي غيره شيء إلا أن يجعل ذلك له؛ ونظير هذا أن تقول: «ليس لك إلا مالك»، فإنه لا يمنع أن يقبل ما تبرع به غيره من المال.
وأما الاقتصار على ما ورد فيقال: إن ما وردت قضايا أعيان؛ لو كانت أقوالاً من الرسول - صلى الله عليه وسلم - قلنا: نعم، نتقيد بها؛ لكنها قضايا أعيان: جاءوا يسألون قالوا: فعلت كذا، قال: نعم يجزئ؛ وهذا مما يدل على أن العمل الصالح من الغير يصل إلى من أُهدي له؛ لأننا لا ندري لو جاء رجل وقال: يا رسول الله صليت ركعتين لأمي، أو لأبي، أو لأخي أفيجزئ ذلك عنه، أو يصل إليه ثوابه لا ندري ماذا يكون الجواب؛ ونتوقع أن يكون الجواب: «نعم»؛ أما لو كانت هذه أقوال بأن قال: «من تصدق لأمه أو لأبيه فإنه ينفعه»، أو ما أشبه ذلك لقلنا: إن هذا قول، ونقتصر عليه.
8 - ومن فوائد الآية: أن الصغير يكتب له الثواب؛ وذلك لعموم قوله - تعالى-: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ} (281) سورة البقرة، فإن قال قائل: وهل يعاقب على السيئات؟ فالجواب: «لا»؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ)، وذكر منهم: (وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ)16؛ ولأنه ليس له قصد تام لعدم رشده؛ فيشبه البالغ إذا أخطأ، أو نسي17، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.