الحمد لله الذي رضي عن المؤمنين الصادقين، وأجزل لهم المثوبة في الدنيا ويوم الدين، والذي أحبَّ من اتبع هداه وكان به من المتمسكين، والصلاة والسلام على نبينا محمد المرسَل رحمة للعالمين، وقدوةً للسالكين، وهداية للخلق أجمعين، والذي اتخذه خليلا ربُّ العالمين، وبعد:
فإن أنفس ما تُبذل فيه الجهود، وتفنى دونه الأعمار، هو السعي لنيل محبة ربنا العزيز الغفار، فليس الشأن أن تُحِب ولكن الشأن أن تُحَب، فالمدَّعون للمحبة كثيرون، ولكن المحبوبين قليلون، فاسلك – رحمك الله وأحبك – طريق العلم بأسباب تجعل الله يحبك.
إن «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة» [الراوي: أبو الدرداء - خلاصة الدرجة: صحيح - المحدث: الألباني - المصدر: صحيح ابن ماجه]، وذلك لأن العلم يهديك ويرشدك إلى ما يحبه الله ويرضاه؛ وإذا أحبك الله سيحبك أهل السموات وأهل الأرض؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبدا نادى جبريل إن الله قد أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي جبريل في السماء إن الله قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ويوضع له القبول في أهل الأرض» [رواه البخاري].
واعلم أن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فنثبت لله ما وصف به نفسه في كتابه، وما وصفه به رسوله – صلى الله عليه وسلم – من غير تكييف ولا تمثييل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، ونعلم ما تدل عليه الصفة من معانٍ، ونقر أن لها كيفية لا يعلمها إلا الله؛ ففي المحبة مثلا، نقول: "إن الله يحب ولكن لا كحبنا، وهذه هي عقيدة السلف الصالحين من الصحابة والتابعين، وهي أعلم وأسلم وأحكم".
وسنتعرض سويًّا لبعض الأسباب التي يتحصل بها العبد على محبة الله – سبحانه – وهي كثيرة جدًّا، وسنأخذ منها القليل، وكل سبب سيُفردُ بشيء من التفصيل عسى الله أن يرضى عنا ويحبنا، ويجعلنا من عباده المتبعين للنبي الأمين، وأن يجعلنا من ورثة جنة النعيم.
من أسباب حب الله للعبد:
أولا: اتباع الحبيب.
قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي، والدين النبوي في جميع أقواله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عليه أمْرُنَا فَهُوَ رَدُّ» [رواه مسلم]، ولهذا قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}. أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض الحكماء العلماء: "ليس الشأن أن تُحِبَّ، إنما الشأن أن تُحَبَّ"، وقال الحسن البصري وغيره من السلف: "زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية".
وقال العلامة القرآني الشنقيطي في (أضواء البيان): "قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} صرَّح تعالى في هذه الآية الكريمة أن اتباع نبيه موجب لمحبتِه جل وعلا ذلك المتبِع، وذلك يدل على أن طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هي عين طاعته تعالى، وصرح بهذا المدلول في قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، تنبيه: يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن علامة المحبة الصادقة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم هي اتباعه صلى الله عليه وسلم، فالذي يخالفه ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفترٍ؛ إذ لو كان محبًا له لأطاعه، ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة، ومنه قول الشاعر:
لو كان حبُّك صادقًا لأطعتَه *** إن المحب لمن يحب مطيع
وقول ابن أبي ربيعة المخزومي:
ومن لو نهاني من حبه *** عن الماء عطشان لم أشرب
وقد أجاد من قال:
قالت: وقد سألت عن حال عاشقها *** بالله صفْه ولا تنقص ولا تزد
فقلت: لو كان رهن الموت من ظمأ *** وقلت قف عن ورود الماء لم يرد
وقال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيره: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ} أي: إن ادعيتم هذه المرتبة العالية، والرتبة التي ليس فوقها رتبة فلا يكفي فيها مجرد الدعوى، بل لا بد من الصدق فيها، وعلامة الصدق اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله، في أقواله وأفعاله، في أصول الدين وفروعه، في الظاهر والباطن، فمن اتبع الرسول دل على صدق دعواه محبة الله تعالى، وأحبه الله وغفر له ذنبه، ورحمه وسدده في جميع حركاته وسكناته، ومن لم يتبع الرسول فليس محبًا لله تعالى، لأن محبته لله توجب له اتباع رسوله، فما لم يوجد ذلك دل على عدمها وأنه كاذب إن ادعاها، مع أنها على تقدير وجودها غير نافعة بدون شرطها، وبهذه الآية يوزن جميع الخلق، فعلى حسب حظهم من اتباع الرسول يكون إيمانهم وحبهم لله، وما نقص من ذلك نقص".
فكيف يدَّعي قوم حُبَّ نبيهم صلى الله عليه وسلم وهم يخالفون مأموراته ولا يكفون عن منهياته؟!
إن المحب لمن يحب مطيع، والمحب لا يخالف، والمحب مأسور في طاعة من يحب، ألم ترَ المؤمن وهو مؤمن مسجونًا والكافر وهو كافرٌ حرَّا طليقًا؟!، لا يتحرك المحب ولا يسكن إلا بإذن محبوبه، يسعى في مرضاته، وتجده غاديًا ورائحًا لا يهدأ له بال حتى يرضى عنه حبيبه ويبادله الحب، وتجد المحب قلقًا خائفًا ألا يحبه حبيبه، فإذا داهمه الكسل ليوقفه عن السير في تحصيل حب حبيبه خلعه عنه وانتصب لجلب مزيد من الرضى والحب، والمحب لا يقبل أبدًا أن يحب حبيبه أحدًا أكثر منه، فكلما رأى مُلتمِسًا محبة حبيبه تهيأ لسباقه، وتحركت غيرته، وطار النوم من عينيه خوفًا أن يُحَب أحد سواه.
وأولى ما اتُّبع عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو الرسالة التي جاء بها هو وكل الأنبياء من قبله، وهي رسالة التوحيد، تلك الرسالة الخالدة الباقية، والراية المرفوعة دائمًا فوق الأعناق رغم كيد الكائدين من الكفار والمنافقين، فما من رسول جاء إلى الأرض إلا وقال كما جاء في القرآن: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 61]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36].
فلا يُسمى متبعًا ولا يكون محبًّا لله تعالى، ولا للنبي صلى الله عليه وسلم من خالف في أمور التوحيد، فالذين يذهبون لأصحاب القبور ليسألوهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، وليطوفوا حول قبورهم، وينذروا لهم، ويستغيثوا بهم ويطلبوا المدد منهم، ويتوسلوا بهم، كل هؤلاء لا يحبون الله سبحانه والنبي صلى الله عليه وسلم محبةً صادقة، والذين يحلفون بغير الله ويُعلقون التمائم ويذهبون إلى الكهان والسحرة، والذين يحكمون بغير ما أنزل الله، والذين يحبون النصارى وسائر الكافرين ويوالونهم، كل أولئك لا يحبون الله ورسوله محبة حقيقية؛ بل هي محبة مزعومة من الممكن أن يدعيها كل أحد؛ لأن الله لا يرضى عن ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بذلك بل نهاهم عن صرف أي عبادة لغير الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم مثلا في الدعاء: «الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]» [رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح]، وكما قال صلى الله عليه وسلم في الذبح: «لعن الله من ذبح لغير الله» [رواه مسلم]، وقال في الحلف بغير الله حتى لو كان بالنبي: «من حلف بغير الله فقد أشرك» [الراوي: عبدالله بن عمر - خلاصة الدرجة: صحيح - المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الجامع]، وقال صلى الله عليه وسلم في شأن التمائم: «من علق فقد أشرك» [الراوي: عقبة بن عامر - خلاصة الدرجة: صحيح - المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترغيب]، فكيف يكون مُحبًّا لله ولرسوله من خالف الشريعة في أهم شيء جاءت به؟!
وكذلك يكون الأمر في الابتداع في الدين، فالمبتدع أبعد الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيتبرأ منه النبي يوم القيامة، وفي الدنيا عمله حابط مرود عليه؛ لأن الله لا يقبل أي عبادة إلا بشرطين يتوفران فيها، وهما: الإخلاص لله، والاتباع لرسول الله، قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [سورة الكهف: 110].
والابتداع يرجع إلى أسباب ثلاثة:
أولها الجهل بمصادر الأحكام بوسائل فهمها من مصادرها، وثانيها اتباع الهوى في الأحكام، وثالثها تحسين الظن بالعقل في الشرعيات (راجع رسالة: البدعة أسبابها ومضارها، للشيخ محمود شلتوت، بتعليق شيخنا محمد يسري).
فهؤلاء الناس الواقعون في الشركيات والبدع يقدمون دليلا عمليًّا على عدم محبة الله والعياذ بالله، فدليل محبة العبد لله هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وهم خالفوا النبي ولم يتبعوه، وعدم اتباع النبي من أسباب عدم حب الله للعبد، فهم ينقصون بأيديهم محبة الله لهم، ولا يُستهان بذلك فالمحبة قدرها عظيم.
ولكي تعرف قيمة المحبة ورفعة منزلتها، اقرأ معي الكلام التالي لشيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله في (مدارج السالكين)، في كلامه على منزلة المحبة، ولكن اقرأ بقلبك فقلما تجد مثله، قال رحمه الله: "المحبة هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروَّح العابدون، فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح، وقرة العيون وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها، وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائمًا إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب، وقد قضى الله يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة أن المرء مع من أحب، فيالها من نعمة على المحبين سابغة تالله لقد سبق القوم السعاة وهم على ظهور الفرش نائمون وقد تقدموا الركب بمراحل وهم في سيرهم واقفون:
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويدًا وتجي في الأول، أجابوا منادي الشوق إذ نادى بهم حي على الفلاح، وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم، وكان بذلهم بالرضى والسماح، وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح، تالله، لقد حمدوا عند الوصول سراهم، وشكروا مولاهم على ما أعطاهم، وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح، تالله ما هزُلت، فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق من يزيد، فلم يرضَ لها بثمن، دون بذل النفوس، فتأخر البطالون وقام المحبون ينظرون أيهم يصلح أن يكون ثمنًا، فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ، لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود فقيل لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه فطولبوا بعدالة البينة بتزكية يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ، فتأخرا أكثر المحبين وقام المجاهدون فقيل لهم إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم، فهلموا إلى بيعة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111]، فلما عرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع عرفوا قدر السلعة، وأن لها شأنًا فرأوا من أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير ثبوت خيار، وقالوا والله لا نقيلك ولا نستقيلك، فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل له مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعافها معًا، {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [سورة آل عمران: 169]، إذا غرست شجرة المحبة في القلب، وسقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب أثمرت أنواع الثمار وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب وفرعها متصل بسدرة المنتهى لا يزال سعي المحب صاعدًا إلى حبيبه لا يحجبه دونه شيء، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر: 10].
وثمة بعض الأشياء التي يجب علمها كي تتبع على بصيرة، وكي تحقق صحيح الاتباع:
الاتباع الصحيح للنبي صلى الله عليه وسلم هو ما كان في الاعتقاد والعمل والسلوك، فلا يُقتصر على الاتباع فقط في العقيدة دون العمل أو دون السلوك الحسن والخُلُق الطيب، وإن من يتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في ظاهره فقط، وأخلاقه سيئة وعلى خلاف السنة سيكون مصدرًا للصد عن سبيل الله، فلابد من التشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنًا، وسيرة وسريرة.
ونبينا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا نبي بعدي» [رواه البخاري ومسلم]، ومن قال إن هناك نبيًّا بعد نبينا فهو كافر إجماعًا لأنه مكذب للقرآن والسنة وإجماع المسلمين، ومن لم يؤمن به صلى الله عليه وسلم فهو كافر حتى لو كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي محمد بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار» [رواه مسلم].
قال العلامة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في (شرح أصول الإيمان): "والإيمان بالنبي – صلى الله عليه وسلم -: "تصديق ما جاء به مع القبول، والإذعان، لا مجرد التصديق، ولهذا لم يكن أبو طالب مؤمنًا بالرسول صلى الله عليه وسلم مع تصديقه لما جاء به وشهادته بأنه خير الأديان".
فيجب الإذعان لشريعته صلى الله عليه وسلم التي هي في الحقيقة أوامر الله تعالى، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، لذلك جعل الله طاعة الرسول طاعتَه، فقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80]. فيجب الإذعان له والتسليم لأوامر الله، وتحكيم شريعته في كل صغيرة وكبيرة؛ ومن نحَّى شريعته وألقاها وراءه ظهريًّا وحكم بغيرها فقد كفر وهذا هو الحكم العام، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى (28-524)): "ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين، أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب". (راجع "حكم الجاهلية" للعلامة أحمد شاكر، ط:مكتبة السنة، و"فضل الغني الحميد" للشيخ ياسر برهامي حفظه الله، باب الحكم).
والاستهانة بأمر من أوامر النبي صلى الله عليه وسلم، أو الاستهزاء بسنته هو من شيم أهل الكفران والإلحاد، مهما صغر أو دقَّ في نظر من يسخر، فاللحية مثلا واجبة وحالقها يأثم على قول المذاهب الأربعة وغيرها، والاستهزاء بها يدخل فيما قلناه وهكذا، ويجب عند الاختلاف الرجوع إلى سنته صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] وأولو الأمر هم الحكام الشرعيون والعلماء الربانيون.
ومن حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا:
(1) اتباعه في كل صغيرة وكبيرة من أمور حياتنا.
(2) ألا يُخاطب كباقي الناس؛ ولكن نقول: رسول الله، أو نبي الله، أو ما شابه ذلك، قال الله سبحانه: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
(3) أن نسأل له الوسيلة، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول . ثم صلوا عليَّ؛ فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة» [رواه مسلم].
(4) الإكثار من الصلاة والسلام عليه، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
(5) المحافظة على سنته، والدعوة إليها.
(6) الدفاع عنه صلى الله عليه وسلم بكل مُستطاع.
ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يدعو لصلة الأرحام، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، والجار، وبر الوالدين، وتفريج كربات الناس ومساعدتهم، وإتقان العمل، وتحمل المسؤولية، وطيب الكلام، وبذل السلام، والرفق بالحيوان، والعطف على اليتامى، وحب المساكين، والإنفاق في سبيل الله على المحتاجين، والاعتصام وعدم التفرق وجمع الشمل والكلمة، واجتناب الفواحش والمسكرات وكل ما يضر الإنسان، وكان يدعو إلى التيسير على الناس وتبشيرهم بالخير، والإحسان إلى الكبير والصغير، وكان يأمر بكل حسن وينهى عن كل قبيح.
ولابد من فهم الكتاب والسنة بفهم السلف وهم صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، وأئمة الهدى في القرون الثلاثة المفضلة، ويُطلق على كل من اقتدى بهؤلاء وسار على نهجهم في سائر العصور: سلفي، نسبة إليهم، وهذه هي الفرقة الناجية، وهم الطائفة المنصورة، وأهل السنة والجماعة، أو أهل الأثر، أو أهل الحديث، وهم من كانوا على مثل ما كان عليه النبي وأصحابه، وسُموا أهل السنة لتمسكهم بها، وسُموا الجماعة لاجتماعهم على الحق وعدم تفرقهم، واجتمعوا على الأئمة الشرعيين، وعلى ما أجمع عليه سلف الأمة، وأهل السنة والجماعة يتميزون بالاهتمام بكتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتمييز الصحيح من الضعيف من الأحاديث لأنها و القرآن مصدرا التشريع والتلقي، وأهل السنة يؤمنون بالكتاب كله ويردون محكمه إله متشابهه، ويجمعون بين العلم والعمل، ولا يبتدعون في الدين كما سبق، وهم وسط بين الإفراط والتفريط، وهم الدعاة إلى الله، ولا يوالون أو يعادون إلا على الكتاب والسنة، وهم أهل الجهاد بالسيف واللسان والمال وكل شيء، ويحكمون شرع الله وينكرون على من أعرض عنه، وهم أهل العدل والإنصاف، ويهتمون بأمر المسلمين في كل مكان، ولا يؤمنون بالوطنية ولا الديموقراطية ولا العلمانية ولا الحزبية ولا القومية، وهم يعرفون الحق ويرحمون الخلق، وهم متوافقو المواقف رغم بعد الأقطار والأعصار، ويختلفون الخلاف السائغ، ولا يجعلهم هذا يكرهون بعضهم بعضًا (اقرأ رسالة "مجمل أصول أهل السنة والجماعة" للشيخ ناصر العقل).
ولابد من قبول كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان آحادًا، ويؤخذ به في كافة الأحكام ومنها العقائد، ولا يجوز مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد مهما بلغ من الإمامة في الدين، وإذا تعارض العقل مع الكتاب والسنة، نقدم الكتاب والسنة ونتهم عقولنا فنحن لا نعلم ما يصلحنا، أما الله فهو الحكيم الخبير، ولا أحد معصوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ادعى العصمة لأحد بعد النبي كفر، والصحابة هم أفضل الناس بعد الأنبياء، وهم مجتهدون في الخلاف القليل الذي حدث بينهم، وللمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد، رضي الله عنهم أجمعين.
وإليك بعض أقوال السلف الصالح في شأن اتباع السنة، لكي تتحصل على حب الله تعالى لك باتباعها:
(1) قال ابن عباس: "عليك بالاستقامة, اتبع ولا تبتدع".
(2) قال ابن مسعود: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم".
(3) قال الإمام أحمد: "من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه, ولا دليل على الطريق إلى الله إلا متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أحواله وأقواله وأفعاله".
(4) قال السّفاريني: "فدع عنك مذهب فلان وفلان وعليك بسنة ولد عدنان، فهي العروة الوثقى التي لا انفصام لها والجنة الواقية التي لاانحلال لها".
(5) وقال الأوزاعي: "ما ابتدع رجل بدعة إلا سُلب الورع".
(6) قال الجُنيد: "الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم".
(7) قال البربهاري: "واعلم رحمك الله أن العلم ليس بكثرة الرواية والكتب، إنما العلم من اتبع العلم والسنن وإن كان قليل العلم والكتب، ومن خلفَ الكتاب والسنة فهو صاحب بدعة وإن كان كثير العلم والكتب".
(Cool قال ابن المبارك: "لا يظهر على أحد شيء من نور الإيمان إلا باتباع السنة ومجانبة البدعة".
(9) قال عبد الرحمن بن أبي الزناد: "ما كان الرجل يعد رجلاً حتى يعرف السنة".
(10) قال الشافعي: "أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد".
(11) كان مالك يقول: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا خان الرسالة؛ لأن الله يقول "اليوم أكملت لكم دينكم" فما لم يكن يومئذٍ دينًا فلا يكون اليوم دينًا".
(12) قال ابن القيم: "ترى صاحب اتباع الأمر والسنة قد كُسي من الرَوَح والنور ومايتبعهما من الحلاوة والمهابة والجلالة والقبول ماقد حُرِمه غيره".
(13) قال ابن أبي العز: "والعبادات مبناها على السنة والاتباع لا على الهوى والابتداع".
(14) قال أبو إسحاق الرقي: " علامة محبة الله: إيثار طاعته ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم".
(15) قال ابن تيمية: "من فارق الدليل ضلّ السبيل, ولا دليل إلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم".
(16) قال سفيان: "لا يُقبل قول إلا بعمل، ولا يستقيم قول وعمل إلا بنية، ولا يستقيم قول وعمل ونية إلا بمتابعة السنة".
(17) قال مالك: "السنة مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك".
وإليك أمثلة عملية من متبعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبيه:
( 1) عندما حلَّ النبي صلى الله عليه وسلم ضيفًا على أبي أيوب الأنصاري، نزل النبي صلى الله عليه وسلم في الطابق الأسفل، وأبو أيوب في العلو، فانتبه أبو أيوب ليلة فقال: نمشي فوق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم! فتنحوا فباتوا في جانب، أي باتوا ليلتهم في مكان ليس فوق النبي مباشرة . ثم قال للنبي صلى الله عليه وسلم أن يصعد أعلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «السفل أرفق» فقال: لا أعلو سقيفة أنت تحتها. فتحول النبي صلى الله عليه وسلم في العلو وأبو أيوب في السفل. فكان يصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعامًا. فإذا جيء به إليه سأل عن موضع أصابعه، فيتتبع موضع أصابعه، فصنع له طعامًا فيه ثوم. فلما رد إليه سأل عن موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: لم يأكل، ففزع وصعد إليه فقال: أحرام هو ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، ولكني أكرهه» قال: فإني أكره ما تكره، أو ما كرهت. [رواه مسلم]
(2) لما رأى عبدُ الله بن عمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كل سبت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي ولا يركب، فكان عبد الله بن عمر كل سبت يخرج من بيته إلى مسجد قباء ماشيًا.
(3) وكان يأتي الغريب ولا يعرف النبي إلا بأوصافه فيحتار فيه، من قوة تشبه الصحابة الكرام به.
وللحديث بقية عن سبب آخر من أسباب محبة الله تعالى للعبد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وأستغفر الله من كل نية فاسدة وعمل مشين، واسأل الستر والسلامة في الدنيا ويوم الدين.