من أسرار القرآن
بقلم: د. زغـلول النجـار
وأوحينا إلي أم موسي أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أوائل سورة القصص, وهي سورة مكية, وآياتها ثمان وثمانون(88) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود قصة عبد الله ونبيه موسي بن عمران مع فرعون وقومه بصورة مفصلة فيها ويدور المحور الرئيسي لسورة القصص حول عدد من ركائز العقيدة الإسلامية, شأنها في ذلك شأن كل السور المكية.
هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة القصص وما جاء فيها من ركائز العقيدة, والإشارات التاريخية والعلمية, ونركز هنا علي جانب الإعجاز التاريخي في استعراض جزء من سيرة النبي موسي بن عمران في الآية القرآنية الكريمة التي اخترناها عنوانا لهذا المقال. من أوجه الإعجاز التاريخي في الآية الكريمة
جاء ذكر نبي الله موسي بن عمران في القرآن الكريم مائة وستا وثلاثين(136) مرة في أربع وثلاثين(34) سورة من سور هذا الكتاب العزيز البالغ عددها مائة وأربع عشرة(114) سورة.
وفي الأثر أن كلا من الأخوين هارون وموسي ولد في مصر زمن الفرعون المعروف باسم رمسيس( رعمسيس) الثاني الذي حكم مصر في عهد الأسرة التاسعة عشرة في الفترة الممتدة من1301 ق. م إلي1235 ق. م تقريبا وقد عرف رمسيس الثاني باسم فرعون الاضطهاد لأنه كان جبارا في الأرض ظالما, كافرا بأنعم ربه حتي ادعي الألوهية حيث قال:... أنا ربكم الأعلي( النازعات:24) وقال مخاطبا شعبه:.. يا أيها الملأ ماعلمت لكم من إله غيري...( القصص:38). اضطهد فرعون مصر رمسيس الثاني كل مؤمن بالله في شعبه الذي قسمه شيعا, وفي ذلك يقول القرآن الكريم إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساءهم إنه كان من المفسدين.( القصص:4).
ويروي الدكتور سليم حسن( جـ6, ص45,44) أن من الذين استضعفهم فرعون واضطهدهم بنو إسرائيل الذين خانوا أباه سيتي الأول( أبو رمسيس الثاني) وتعاونوا مع أعدائه في بلاد الشام, كما خانوا العهد معه وعرضوه لخدعة من اثنين من البدو كلفته فيلقا كاملا من جيشه, وكادت الخدعة تودي بحياته هو في معركة قادش. وكان بنو إسرائيل قد وفدوا إلي مصر زمن القحط الذي ضرب منطقة المشرق العربي( سنة1728 ق. م) بعد ان بيع يوسف بن يعقوب رقيقا لعزيز مصر, ثم أكرمه الله ـ سبحانه وتعالي ـ بعد سلسلة طويلة من الابتلاءات بأن جعله أمينا علي خزائن أرض مصر في زمن احد ملوك الهكسوس,
وهم عرب كانوا قد حكموا مصر فترة من الزمن حتي حررها ملوك الأسرة الثامنة عشرة الذين طاردوا الهكسوس الي بلاد الشام. ولما عاد رمسيس الثاني من معركة قادش بعد توقيع الصلح مع الحيثيين بدأ التنكيل بالاسرائيليين خاصة بعد ان رأي في منامه رؤيا مفزعة فسرت له بأن غلاما يولد في بني إسرائيل يتحقق علي يديه هلاك فرعون مصر وزوال حكمه لأرض مصر. وقد أزعج تفسير الرؤيا هذا الفرعون إزعاجا شديدا وأفزعه علي مستقبل حكمه وملك أبنائه وذريته من بعده.
وفي غمرة جنون الخوف والفزع من المستقبل المجهول أمر رمسيس الثاني بقتل كل غلام يولد في بني اسرائيل فور ولادته, وان يترك الاناث من هؤلاء المواليد للقيام بالخدمة في بيوت المصريين. وبتطبيق هذا القانون الجائر قلت الأيدي العاملة في المجالات التي لا يقوي عليها إلا الذكور من مثل استخراج الأحجار من مقالعها, وأعمال البناء والزراعة والصناعة وغيرها من الأعمال الشاقة, فاشتكي أهل مصر من ذلك النقص في اليد العاملة إلي الفرعون فتفتق ذهنه عن فكرة جهنمية مؤداها ذبح جميع من يولد من غلمان بني اسرائيل عاما وإعفاء مواليد الغلمان من الذبح في العام الذي يليه حتي يكون من المعافين من الذبح طبقة من أصحاب الأيدي العاملة في الأعمال الشاقة, وظل العمل علي هذا المنوال طيلة فترة حكمه التي استمرت حوالي سبعة وستين(67) سنة( من حوالي1301 ق. م إلي1234 ق. م)
ولد هارون بن عمران الأخ الأكبر لموسي في عام لم يكن يذبح فيه غلمان بني إسرائيل فنجاه الله ـ سبحانه وتعالي ـ من الذبح, ثم ولد أخوه موسي بن عمران في سنة كان غلمان بني إسرائيل يذبحون, ولاحظ كل من رأي هذا الوليد المبارك أن الله ـ تعالي ـ قد ألقي عليه محبة منه, فكان كل من رآه من أهله أو من جواسيس الفرعون وقابلاته يقع حب هذا الوليد الجديد في قلبه, فيساعد الأسرة المنكوبة علي إخفائه, ولذلك يمتن ربنا ـ تبارك وتعالي ـ علي عبده موسي بعد أن كبر وآتاه الله النبوة فيقول له:... وألقيت عليك محبة مني ولتصنع علي عيني.( طه:39). هذه المحبة التي ألقاها الله ـ تعالي ـ علي عبده موسي استقرت في قلوب الناس وجعلتهم يعاونون أمه علي إخفاء رضيعها من زبانية فرعون وجواسيسه الذين كانوا يجوبون حواري بني إسرائيل بحثا عن المواليد الجدد من الغلمان.
ولكن مع اشتداد وطأة البحث, وانتشار الجواسيس والقابلات, زاد خوف أم موسي عليه, وفزعت فزعا شديدا من إمكانية انتزاعه من بين أحضانها وذبحه. وفي غمرة خوفها وقلقها وحيرتها وهي تفكر في كيفية حماية وليدها موسي ألهمها الله ـ تعالي ـ أن تضعه في مهده ثم في صندوق يحميه من البلل بالماء, وأن تضع الصندوق في اليم( نهر النيل) الذي كان متاخما لبيتها, بعد أن تربطه بحبل متين يشده إلي البيت.. وكانت تسترجع وليدها إلي البيت لإرضاعه ثم ترده إلي مكانه في نهر النيل مخبأ بين أعشابه ونباتاته, خوفا من مفاجأة جواسيس فرعون لبيتها وانتزاع وليدها من بين أحضانها.
وفي يوم من الأيام تمكن تيار الماء في نهر النيل من قطع الحبل الذي يربط صندوق موسي إلي بيت أمه, وتحرك تيار الماء بالصندوق وبداخله الرضيع موسي حتي أوصله إلي شاطئ قصر الفرعون الذي كان قائما علي بحيرة متصلة بالنيل فالتقطه حراس القصر وخدمه, وتم فتح الصندوق في حضرة زوجة الفرعون, وكانت سيدة مؤمنة بالله, وكان اسمها آسية( أو إست نفرت), وقد ضرب الله ـ تعالي ـ بها المثل للإيمان الصادق في محكم كتابه العزيز فقال: وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين( التحريم:11)
وعند فتح الصندوق وقعت عينا السيدة المؤمنة آسية زوجة فرعون مصر علي الطفل الرضيع موسي بن عمران فرأت في وجهه نورا أوقع محبته في قلبها فتعلقت به بسبب المحبة التي ألقاها الله ـ تعالي ـ عليه, ووصل الخبر إلي الفرعون فجاء غاضبا وأدرك أن الرضيع هو أحد غلمان بني إسرائيل الذي حاول أهله إخفاءه عن أعين الذباحين من جنده وعملائه, وأمر بقتل الغلام علي الفور, ولكن زوجته الصالحة ألحت عليه بالرجاء أن يستبقيه لهما فرحة ومسرة وقرة عين, فاستجاب الفرعون لرجاء زوجته بعد إلحاح طويل منها, وفي ذلك يقول الحق ـ تبارك وتعالي ـ: وأوحينا إلي أم موسي أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين* فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين* وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسي أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون* (القصص:7 ـ9).
وعندما فوجئت أم موسي باختفاء الصندوق الذي كانت قد خبأت فيه رضيعها موسي فزعت فزعا شديدا, وأمرت أخته بالاسراع في اقتفاء اثره, وجرت اخته علي طول ساحل النيل من بيتها الي قصر الفرعون ففوجئت بأن الصندوق قد وصل الي القصر, فطار عقلها من الجزع والخوف علي اخيها كما طار عقل امها وأصبح خاليا من كل شئ في الدنيا إلا ذكر موسي وكيفية إنجائه من قبضة الفرعون. وفي ذلك يقول القرآن الكريم: وأصبح فؤاد أم موسي فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا علي قلبها لتكون من المؤمنين* وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون*( القصص:11,10).
جاع الطفل موسي وأخذ في البكاء حتي ملأ قصر الفرعون ببكائه فأمرت السيدة آسية بجلب عدد من المرضعات للطفل الباكي, ولكن كلما جاءت احداهن لترضعه أبي ان يأخذ بثديها, واشتد جوع الطفل وعلا صراخه, والمرضعات يترددن علي القصر دخولا وخروجا دون أن يقبل الرضاعة من أيهن, فتسللت أخت موسي الي داخل القصر مع المرضعات الداخلات وشاهدت أخاها يبكي ويرفض الرضاعة من اية مرضعة, فتقدمت من السيدة آسية عارضة ان تدلها علي من يمكن ان يقبل هذا الطفل الرضاعة منها فوافقوا فورا علي ذلك, فذهبت وعادت لهم بأمه فأقبل عليها ورضع منها,
فدفعوا بالطفل إلي أمه وأجروا لها راتبا أجر إرضاعها له, وعرضت آسية علي أم موسي إمكانية الإقامة في القصر حتي لا تحرم من رؤية موسي, ولكنها اعتذرت بضرورة القيام علي شئون أسرتها, فوافقت آسية علي اصطحاب أم موسي لرضيعها وأغدقت عليها بالعطايا علي ألا تحرمها من رؤية الطفل من وقت إلي آخر. وعادت أم موسي إلي بيتها فرحة برضيعها الذي نجاه الله ـ تعالي ـ من الذبح, وحقق لها أولي البشريين اللتين رأتهما في منامها, وفي ذلك يقول القرآن الكريم: وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم علي أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون* فرددناه إلي أمه كي تقر عينها ولاتحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون*( القصص:13,12).
ويمن ربنا ـ تبارك وتعالي ـ علي عبده ونبيه موسي بذلك قائلا له: ولقد مننا عليك مرة أخري* إذ أوحينا إلي أمك ما يوحي* أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع علي عيني* إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم علي من يكفله فرجعناك إلي أمك كي تقر عينها ولا تحزن...*( طه:37 ـ40).
وبعد فطام موسي أعادته أمه إلي السيدة المؤمنة آسية زوجة فرعون مصر لينشأ هذا الصغير في قصره, وليتربي تربية أبناء الملوك تحت عطف وحب ورعاية من فرعون وزوجه.
وقصة ولادة موسي في زمن ذبح غلمان بني إسرائيل عقب ولادتهم, وإنجاء الله ـ تعالي ـ له من الذبح علي أيدي جند فرعون وأعوانه, وتربية هذا الطفل في بيت عدو الله وعدوه فرعون مصر حتي بلغ اشده, هذه القصة لها ما يشبهها في بعض كتب الأولين مع الفارق الهائل بين كلام الله وكلام البشر.
وإذا علمنا أن الفارق الزمني بين كل من النبيين الكريمين محمد بن عبد الله وموسي بن عمران يقدر بحوالي ألفي سنة, وأن الرسول الخاتم قد اختار الله ـ تعالي ـ له أن يكون أميا لا يعرف القراءة ولا الكتابة, وأن يبعث في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين الذين لا يعرفون التدوين أدركنا ومضة الإعجاز التاريخي في عرض القرآن الكريم لقصة ميلاد النبي الكريم موسي بن عمران في روعة من الصياغة, ودقة من التفاصيل, تفتقر اليهما روايات الأولين, وفي إيجاز معجز يشهد للقرآن الكريم بأنه كلام رب العالمين, كما يشهد للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.