ونطق الصمت) - الحلقة الأخيرة!
غريب هو أمر الإنسان، يخاف من أشياء كثيرة في حياته، وعندما يتعود عليها أو يحتاج لها، تجده يسرع في فعلها و الحصول عليها، هذا ما كنت أفكر فيه عندما طلب من الدكتور (خالد) أن أفتح فمي ليدخل فيه هذا المنظار القبيح الشكل، فلقد سارعت إلى فعل ذلك متلهفًا وبقدر قليل من التردد لكي أعرف ما بي، وأعجّل في شفائي، - بالرغم من تيقني بأن الأمر ليس بيده وليس بيدي - ولو قال لي أحدهم قبل أنا يصبني ما أصابني، افتح فمك لأدخل فيه مثل هذا السلك، لما وافقت …. أبدًا.
طلب مني الدكتور أن ارفع رأسي ليتمكن من الوصول بالمنظار إلى مكان الحبال الصوتية، والتفت إلى الممرضة وطلب منها أن تشغل التلفاز!
وعلى الشاشة ظهر لي منظر بشع، كنت دائمًا أنفر منه، وأتقزز من النظر إليه، منذ طفولتي، ولعله أحد الأسباب التي جعلتني أكره الطب بكل تخصصاته، فلقد كان يظهر عليها كل التفاصيل الداخلية لحلقي، بلون أحمر فاتح، والمنظار الملحق به كاميرا دقيقة، يواصل النزول في جوفي، متخذًا طريقًا ملونًا نحو حبالي الصوتية، لا أدري لماذا أغلقت عينيّ حينها، هل لمنع عنهما رؤية ما تعرضه الكاميرا لأشياء داخلي، أم لأزيد من السيطرة على تنفسي، لأمنع حالة الغثيان التي كانت تتصاعد، وكأن كل أجزاء جسمي الداخلية تتظافر لتعلن رفضها لدخول هذا الجسم الغريب، سمعت الدكتور خالد يقول لي بصوته المطمئن: ” لا بأس .. تنفس من فمك بعمق، سيزول هذا الشعور سريعًا، بإمكانك الآن أن تنظر، لقد وصلنا”. فتحت عيني ببطء، وكلي لهفة لرؤية شيء مختلف، غير أن الشاشة لم تكن تختلف عن سابقتها، كان الدكتور خالد يشرح لي ما يظهر على الشاشة، ويقول وهو يشير إلى غشائيين رقيقين يطلق عليهما (الثنايا الصوتية) أو ما يقوله الناس خطأً (الحبال الصوتية) الذي يلزم كل واحد منهما جهة من الحنجرة، وعند الكلام يتحركان ليلتقيا في المنتصف ويحكما إغلاق الحنجرة، أو هكذا يجب … لأن الغشاء الأيمن منهما كان مشلول الحركة، ويقف قبيل المنتصف، فعندما يتحرك زميله لملاقته، لا يلتقيان، وهذا هو سبب فقدانك للصوت، أو بالأحرى ضعفه، هكذا قال الدكتور خالد.
طوال نصف ساعة كان الدكتور خالد يطلب مني إصدار أصوات محددة، ويسجل حركة الثنايا الصوتية فيديويًا، ويحللها ببرامج مخصصة لذلك، وبعد أن حفظها في جهاز مخصص لذلك، أخرج المنظار من جوفي، وقال لي : “لقد انتهينا” !!
لم أصدق، هل انتهينا فعلاً؟
هل من نهاية لما أعاني منه؟
وهل سيستخدم الدكتور عصًا سحرية ما، فيعيد بها الحركة إلى حبالي الصوتية؟!
أردت أن أتكلم، غير أن صوتي المبحوح كان أبلغ دليل على أن العلاج مازال في أوله، وأن الطريق طويل.
أزاح الدكتور (خالد) قناعه الطبي، ونظر إليّ متمعنًا، وقال:”يا محمد، سأكون صريحا معك .. العلاج الوحيد لمثل حالتك .. عادة ما يكون بالتدخل الجراحي، فنحقن الثنية المتعطلة ونثبتها في المنتصف، لكي تستطيع الأخرى ملاقاتها، وسيصبح بعد ذلك صوتك شبه طبيعي، غير أني لا أحبذ اللجوء إلى هذا الحل في الوقت الحالي .. وما أقترحه هو أن ننتظر لفترة طويلة، قرابة أربعة إلى ستة أشهر، ففي كثير من الحالات تنشط الثنية من تلقاء نفسها، وتعود مرة أخرى إلى وضعها السابق، والأمر لك؟”
أسقط في يدي، ولم اعد أدري بما أجيب! فهل أختار التدخل الجراحي بكل ما فيه من مخاطر، أم أفضل العودة إلى معاناتي السابقة، وأدخل ملتزم الصمت من جديد؟
كان التردد باديًا على وجهي، وكل حركاتي، مما دعا الدكتور(خالد) يبتسم بلطف، وينظر إليّ ويقول: ” أمر صعب أليس كذلك؟”، انتزعت ابتسامة من أعماقي وأنا أهز رأسي مؤيدًا لما قاله، فاستمر قائلاً: ” أنصحك بالتريث، وبإذن الله ستكون حالتك قابلة للشفاء، دون أي تدخل جراحي”.
والتفت إلى دفتر المواعيد الموجود على الطاولة الجانبية، وهو يكمل:”سأحدد لك موعدًا بعد أربعة أشهر، وخلا هذه المدة .. أنصحك بأن … ” ثم توقف وهو يكمل ما بدأ في كتابته في الدفتر، وقلت في نفسي : “وما الجديد .. كلهم يقولون أنصحك بأن تسكت! وكأن الكلام أضحى من المحرمات بالنسبة لي” …
رفع رأسه … وابتسم وهو يقول: “وأنصحك بأن تعود إلى سابق عهدك في ممارسة حياتك، حاول أن تتحدث بشكل طبيعي، وأحرص على سلامة نطقك، لا تجعل من هذه البحة سببًا لتغيير طريقتك في الكلام … بل وفي الحياة كلها” ..
قطبت عن حاجبي … ونظرت إليه وقلت: “معذرة يا دكتور .. لقد اختلط علي الأمر .. فهل تنصحني بالعودة إلى الكلام؟”.
ابتسم مشفقًا ونظري إليّ بتمعن، وهز رأسه وهو يقول تلك الكلمات التي أطلقت سراح صوتي: “بالتأكيد .. أنا لا أنصح بذلك .. بل أؤكد عليه، فهو ضروري لمساعدة الثنية المتوقفة للعودة إلى العمل مرة أخرى، لذلك عليك بالكلام … الكثير منه!”.
خرجت من المستشفى والبشر يغطي ملامحي، والفرح بداخلي يقفز من عيني، وأنا أمشي بخطوات واسعة إلى سيارتي، ركبتها، ومباشرة عدت إلى منزلنا، حيث كانت والدتي تجلس في مصلاها المعهود، قبلت رأسها، وأشارت إليّ وهي تداري رغبتها الملحة في الحديث معي عن حالي، ابتسمت وأنا أجيبها بصوت حاولت بكل جهدي أن يكون طبيعيًا، فقالت لي: ” لا تتعب نفسك يا بني .. تكفيني إشارة منك”، ابتسمت وأنا أقبل رأسها وأقول لها: “لقد ولى زمان الصمت يا أمي، لقد أُطِلقَ سراح صوتي… ونطق صمتي”.
وهكذا … بدأت أعود إلى حياتي السابقة تدريجيًا،
أتحدث برغم ضعف صوتي،
أمارس كافة المهام المطلوبة مني،
لم اعد ذاك الشخص السلبي ..
وبدأت أتغير … ايجابيًا ..
وبعد نهاية الأربعة أشهر عدت إلى الدكتور (خالد) بوجه آخر، وبصوت عاد نسبيًا إلى طبيعته، وبعد الفحوصات بشرني بأن الثنية المتعطلة عادت للحركة، وتعمل الآن بشكل طبيعي نسبيًا، وتحتاج إلى مزيد وقت لتعود إلى سابق عهدها.
كان هذا الخبر مبهجًا …
ومحفزًا لي جدًا،
ففيه بداية النهاية لألم استمر عدة أشهر،
وانغلاق باب نالي مما وراءه الكثير،
غير أنه بقي سؤال كبير … فما استفدته مما حصل لي؟
لقد كانت الفوائد جد كبيرة،
فلقد خرجت من فترة الصمت الإجبارية بفوائد لا تحصى،
فبداية تعودي على الصمت المؤلم،
ومن ثم الممتع،
إلى قراءة نفسي من الداخل بشكل أفضل،
وتعلمت الكثير … والكثير،
فتعلمت أن الكلام ليس أقوى الوسائل التي يمكنني استخدامها،
فبالنظرة والتأمل والابتسامة صادقة تستطيع أن تحقق أصعب الأمور،
بأبسط الوسائل.
وأن خلف كل لسان ناطق .. عينان تنتظر منك أن تعرف ما تخبئان،
وأن العديد منّا يختبئ خلف لسانه … وصوته،
وربما … مظهره!
هذا بعض مما عرفته تلك الفترة،
وهذا ما أنوي أن أستمر في تطبيقه دومًا – بإذن الله -،
لقد كان هذا كله تحقيقًا لقوله تعالى :
(وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) - (البقرة : 216)
فصمتي … وبالرغم من كرهي له،
إلا أنه لقنني أفضل الدروس التي تعلمتها في حياتي،
وهكذا أصبحت حالي …
بعد أن (نطق الصمت) ..
تمت
محمد الداود
11/6/1428هـ
أرجو أن تكونو قد اسمتعتم من هذه الرواية واستفدتم وأخذتم العبر وشكرااااااااااا لمن مر على الموضوع
وقرأه مع أطيب التهاني و أخلص التحية