ونطق الصمت) - الحلقة الثامنة
بعد مضي عدة أيام من عودتي، بدأت أعيش حالة جديدة من الضيق والألم، بدا ذلك يظهر جليًا على تصرفاتي، وردود أفعالي، فمعظم من حولي تعودوا على حالتي، وبدأو يجدونها مثيرة للسخرية والفكاهة، فعندما أكون في وسط عائلتي، ولما أحاول التحدث كنت أسمع من هنا وهناك عبارات اللمز والتهكم حول صوتي؛ بل بين أصدقائي كنت أسمع مثل هذه الكلمات: “أشوى أن صوته ضرب .. حتى ما يزعجنا بكلامه” أو “وش حليلك الحين … على الصامت على طول” بالرغم من سلامة نية قائلها إلا أن مثل تلك العبارات كانت تصيبني دومًا في مقتل، وتجعلني أعود إلى فراشي وأتقلب عليه ولا أذوق طعمًا للنوم، بدأت اختلق الأعذار لكي أبتعد عن أصدقائي، وعندما ألتقي أحدهم، ولو مصادفةً كنت أتهرب، وأبتعد قدر الإمكان، وكلما طالت المدة، لم أعد أجد ذلك التعاطف والحرص من قبل من حولي، عدا والديَّ رعاهما الله، فهما بعد الله عز وجل كانا أحد أهم الأسباب التي ساعدتني على تجاوز تلك الأزمة، وبأقل الخسائر الممكنة، فلقد كان حرص والدي على رقيتي، والمداومة على شرب الماء المقرئ فيه، وسؤاله الدائم عن حالتي، خير معين لي في تلك المرحلة، أما والدتي … ألا ما أروعكِ يا أمي، لن أنسى أبدًا كيف كانت الدموع تبلل وجهك الطاهر، وأنتِ تسأليني بالإشارة عن حالتي كل يوم، كنت أعيش بينكما وأنا أشعر بأن هناك من يحمل همي، ويفكر في حالتي في كل لحظة، كنت أشعر بعواطفكما الصادقة من خلال كلماتكما التي تقطر حزنًا وألمًا، كنت أشعر وأنا معكما بأني لست وحدي، بأن هناك من يتألم لألمي، من يحس بما أعاني، من يشعر بي، كنت جزء منكما، أفستحوا لي مكانًا واسعًا في قلبيكما، وأجلستماني بكل حب فيه!
خلال أسابيع الانتظار الطويلة، بدأت ألحظ التغيرات التي تحدث لي، فلم أعد (محمد) الذي كان من قبل، فلقد كانت شخصيتي السابقة تتوارى في الخلف، وتخرج لي شخصية أخرى، لم أكد أتعرف ملامحها، بدأت السوداوية تطغى عليّ، ذهب محمد الشخص المتفائل، وظهر على السطح شخص آخر، متشائم، ملول، متحفظ، ينظر إلى من حوله بمنظار أسود! كرهت الابتسامات والضحكات، بدأت أراها تفاهة، استبدلت الألوان المشرقة في حياتي بأخرى كئيبة رمادية، انتزعت نفسي من كل مبهج، وجعلتها ترفل في ملابس الحداد، حينها أصبح الأسود لوني المفضل، والصمت هو السيمفونية الوحيدة التي أستمتع بها!
كانت تلك هي الأيام التي عرفت فيها الدكتور جلال، أكبر استشاري مستشفى الحمادي بالرياض، فبنصيحة أحد الأصدقاء ذهبت هناك، والتقيت به، وبدأت معه سلسلة من الفحوصات التي بدت بلا نهاية، وعندما لم يعرف ما بي قال :”نحتاج أن نجري لك أشعة مقطعية CT Scan”.
.
.
.
وللحديث بقية